ملامح سور القرآن: سورة النور

إذا اتضح معنى سورة المؤمنون فإن صلة سورة النور بها جلية لا تخفى، هي في نظام جانب من بشرية الإنسان، والسمو بها، أي في العلاقة بين الذكر والأنثى من بني البشر. وهي سورة النور لما لهذه الغريزة من صلة بالبصر وبالزينة، على المعنى المادي للنور، ومن صلة أيضًا بالبصيرة واستنارة النفس، على المعنى النفسي للنور. وهو نور مستمدٌّ من الله الذي هو نور السموات والأرض، وهو النور، ويخرج عباده من الظلمات إلى النور، وكل نور فهو من نوره، ومستقره في بيوت الله الرفيعة بالذكر والتسبيح، كما أن النور المادي لا بد له من أداة لجمعه وتقويته بمشكاة ومصباح وزجاجة.

ومثل الشاردين عن هذا النور أيضًا من مادة الضوء، فأعمالهم كالسراب المظنون ماء، فإذا بلغه الذي يجري وراءه لم يجده شيئًا، بل وجد هناك الحساب العسير على انحرافه، وهو مثال من يجري وراء الشهوات المحرمة بما يخيله له البصر، ثم لا يجد شيئًا غير الحسرة والندامة، فهو إما ضوء كاذب، هو السراب، وإما ظلمات متراكم بعضها فوق بعض لا يرى المرء فيها بعضًا من جسده، فضلا عن أن يرى غيره، فهو يجوس فيها كالعميان، لا يدري من أين جاء ولا إلى أين يذهب؟

وعلى عادة القرآن في البدء بمعالجة العاجل بدأت السورة بالحدود الرادعة وتبشيع الجرم في وقوعه أو الاتهام به، ثم بحديث الإفك، ثم رسمت إجراءات الوقاية، من الاستئذان وأحكام الزيارة، وغض البصر، وأحكام الزينة للمرأة، ثم رغَّبت في تزويج الأيامى، وهم من لا أزواج لهم من الذكور والإناث، وأمرت من لا يجد بالاستعفاف حتى يغنيه الله. ولهذه الأحكام تتمة في آخر السورة في شؤون استئذان الصغار، والأكل في بيوت الأقرباء، وزينة القواعد من النساء.

وفي السورة حديث عن المنافقين وأعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، لأن لهم مدخلًا خبيثًا في إشاعة الفاحشة، والتحريض عليها، لما يعلمون من سطوة الغريزة على بني البشر، ولما يودون من أن يكون الأعفَّاء مثلهم منفلتي العقال لا وازع لهم.

ولما كان هذا الشأن من سمات المجتمعات، وطريقتها في العيش، جاءت آية وعد المؤمنين بالاستخلاف، لأن الحياة في بيئات لا ضوابط لها في العلاقات والمظهر، تزيد من تكاليف العفاف والاستقامة، وتصعبهما.

وفي السورة مشهد للخلق في نزول الماء آتيًا من التأليف بين السحاب، لمناسبة موضوع السورة في العلاقة بين الذكورة والأنوثة، وذُكر فيه سنا البرق، لمناسبة النور، وفي خلق الدواب من الماء مختلفة الأنواع في مشيها، وهو مشهد للدلالة على ناموس الخلق في المزاوجة المماثلة لخلق الناس، فهي سنة كونية بني عليها نظام الحياة، حتى إنه أعقب ذكر تأليف السحاب بذكر تقليب الليل والنهار. ومشهد الطير المسبحة صافاتٍ أجنحتَها لمناسبة ذكر اسم الله في البيوت المرفوعة، فهو تمثيل بالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، إذ الذكر مجلبة للنور.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين