ملامح سور القرآن: سورة السجدة

 

وبمناسبة العمل الإنساني من الفكر والحكمة والقول واللهو في مقابلة وحي الله كانت سورة السجدة في معنى التواضع لله ولوحيه، ولذلك افتتحت السورة بنفي الريب عنه، وأنه تنزيل من عند الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، والذي يدبر الأمر، وهذا الأمر نزولًا وعروجًا يكون في ألف سنة مما يعد الناس، وهو يوم عند الله، وسيق هذا للدلالة على عِظَم ذلك، بتصور ما يحصل في ألف سنة من الأمور، والإنسان يدعي العلم والفهم، ويريد أن يضاهي علم الله وتدبيره. وهذا يشبه ما سلف في سورة لقمان: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) الآية.

فهذا مشهد، ومشهد آخر هو بدء خلق الإنسان من طين، ثم من سلالة من ماء مهين، فهذا أصل الإنسان الذي منه نشأ، وروحه الذي به يحيا من الله، وسمعه وبصره وفؤاده التي بها يكتسب العلم والفهم من الله، فكيف يشمخ بأنفه، ويرى أن ما يأتي به بعقله يكون مضاهيًا لما علَّمه الله وأرشده في كتابه؟

وارتباط تكذيب الكتاب بالتكذيب بالآخرة شائع في القرآن الكريم، كما قال في سورة الأعراف: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم)، ولذلك جاء هنا ذكر التكذيب بالبعث، ومشهد القيامة المذكور الذي فيه تنكيس الرءوس، والإقرار بالحق، وطلب العودة لعمل الصالحات.

وانظر إلى لفظ (ناكسو رءسهم) الدال على الذلة، وقد أُمروا في الدنيا أن يتواضعوا لما أنزل الله، وفي مقابل ذلك مشهد سجود المؤمنين في الدنيا، ولا سيما عند تلاوة الآيات عليهم، ثم هم ليقينهم بافتقارهم إلى ربهم إذا فرغوا من معاشهم وآب الناس إلى فُرُشهم فزعوا إلى مناجاة ربهم، فرَقًا مما يخافون، وطمعًا فيما يطلبون.

وأظن أن ذكر توفي ملك الموت للناس لمزيد من تأكيد معنى التواضع التي يشيع في جو السورة، كما قال في سورة الأنفال: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم)، على أنه قال في سورة الزمر: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها).

ولاتصال السورة بشأن القرآن عَطف بـ (ثم) في قوله: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) الدالة على الاستبعاد واستعظام ما جاء بعدها بالقياس إلى ما قبلها، كما قال في سورة الجاثية: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها)، على حين قال في سورة الكهف: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) فعطف بالفاء، فكان الغرض ذم الإعراض بعد التذكير بغير الإشارة إلى بشاعة البون بينهما.

وموقع (ولقد آتينا موسى الكتاب) أنه من شأن الله أن ينزل كتبه برسالاته على أنبيائه ليبلغوها الناس، ولذلك يكون معنى: (فلا تكن في مرية من لقائه) من لقاء الكتاب، وأنه من عند الله، والسورة افتتحت بذكر الكتاب، ونفي الريب عنه. واختلف أهل التفسير في المعنى، وقد أتقن ذلك الزمخشري، فاستدل على هذا التفسير بالقرآن، فاستدل على المعنى بقوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك)، واستدل على استعمال لفظ اللقاء في الكتاب بقوله: (ثم نخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا)، لله دره، رحمه الله!

وفي ختام السورة ثلاثة مشاهد: مشهد إهلاك القرون من قبل ومساكنهم ماثلة، والتعقيب عليه بقوله: (أفلا يسمعون)، لأنه من حوادث التاريخ التي تعرف بالنقل والسمع، ومشهد الماء النازل من السماء يحيي الأرض الميتة فيأكل الناس والأنعام، والتعقيب عليه بقوله: (أفلا يبصرون)، لأنه من الحوادث المشاهدة بالعين. وهما مشهدان متقابلان في الإماتة والإحياء. والمشهد الثالث في استبعادهم الوعد بالعذاب، وسماه هنا فتحًا بخلاف كل ما ورد منه في القرآن، وهو الإهلاك كما فعل بالقرون السابقة، بدليل نفي نفع الإيمان، كما قال الطبري بحق، وإنما سماه فتحًا لأنه ذكر العذابين الأدنى والأكبر، والأدنى يرجى به رجوعهم، والأكبر لا ينفع معه الإيمان، وكلاهما وعد، فميَّز بينهما بتسمية المراد فتحًا. وكان هذا توطئة لما يأتي في سورة الأحزاب من النصر على الأحزاب.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين