ملامح سور القرآن: سورة الروم

"موضوع سورة الروم فرع عن موضوع سورة العنكبوت، إذ هي في لون من الفتنة، وذلك الفتنة بعلوِّ الأمم والدول، ولا ثبات لذلك ولا بقاء، فالغلبة مناوبة، والأيام مداولة، وموقع قوله: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} موقع عجيب، لأن الظاهر أن الأسباب الدنيوية في العلو والسقوط بمعزل عن الآخرة، فكأن الآية تشير إلى أن بواطن الأمور لها صلة بشؤون الآخرة، لأن الآخرة من الغيب، وليس جريان الحياة الدنيا على الظاهر فحسب، فلهذا الظاهر ما يكمله من الغيب، وأهمه الآخرة، ففي الآخرة الجزاء الأوفى، وفي الدنيا جزاء أيضًا، وآجال مسماة، ستبلغ مداها.
فقيام الدنيا والآخرة، كوجود الليل والنهار، والإصباح والإمساء، والظهر والعشي، والحياة والموت، والبدء والإعادة، هي سنن بني عليها نظام الخلق، فيها التقابل، والتنوع، والتدرج، والحركة، وذلك إلى غاية، هي انفضاض سوق الحياة، وقيام الناس للحساب.
ومن هنا تفهم موقع قوله أيضًا: {أو لم يتفكروا في أنفسهم}، فهذه النفس نموذج صغير للحياة في بدئها وانقضائها وأطوارها وارتباطها بنظام الكون وقيام السموات والأرض، وجاء شرح ذلك بعد قليل عند قوله: {ومن آياته أن خلقكم من تراب} الآيات. وفي آخر السورة جاء قوله: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة}، فهذه أطوار الإنسان والحياة كمصائر الأمم والدول.
وذكر اختلاف الألسنة والألوان في آيات الله واضح الدلالة في الإشارة إلى موضوع السورة، وأنه في شأن اختلاف الأمم وغلبة بعضها على بعض.
وفرح المؤمنين في مطلع السورة بنصر الله مع أن المنصور ليس المؤمنين يدلك على أن للمؤمنين بصيرةً فيما هو أقرب إليهم، إذ الوقائع مراتب في مصالحها ومفاسدها، وهم يقيسونها بمقدار قربها من الصلاح وبُعدها عن الفساد ولو قلَّ. على أنه ذكر من بعد وعده بنصر المؤمنين: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين}، ولكن النصر أنواع، منه جزئي وكلي.
ومشهد إرسال الرياح وإنزال الغيث واستبشار من كان ينتظره بعد الإياس - من هذا الباب، فهي ليست حدثًا واحدًا، ولكنه إرسال الرياح، ثم الرياح تثير السحاب، ثم يصير السحاب قطعًا، ثم يخرج الماء من خلاله، ثم يصيب الله به من شاء من عباده، فيكون عند ذلك استبشارهم. فهي أحداث مجتمعة يكون في ختامها ما ينتظره المنتظرون. ويقابل ذلك ريح تجعل النبت مصفرًّا، ليس لها ما كان للأولى من الأثر المرجو المحمود.
في السورة اعتناء واضح بالساعة والحساب، وتكرَّر فيها: {ويوم تقوم الساعة} ثلاث مرات، فساعة الآخرة هي في مقابل ساعة الدنيا، أي الآجال للناس والأمم، فالإيقان بهذه كالإيقان بتلك، والعواقب هنا كالعواقب هناك، انظر إلى قوله: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى}، وفي معناه بعد قليل: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس}، فالأعمال لها جزاءاتها الدنيويَّة المحتومة، كما لها جزاءاتها الأخرويَّة.
وفي السورة أمر بالاستقامة على الدين الحنيف، أي المجافي للشرك، وهو القيِّم، أي المستقيم، وهو الفطرة، وهو إخلاص الدين لله، الذي له الخلق، وله الأمر، مهما تقلبت الأحوال، وتبدَّلت الدول، واختلفت الناس، وفرَّقوا الدين، وتشيعوا للنِّحَل.
وفي السورة بهذه المناسبة حديث عن المال الذي يقوم به العمران، وتحيا به الأمم، ويقع الفساد فيه وبه، تقرأ في أولها: {وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها}، ومن بعد: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}، {وما آتيتم من ربا لتربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}، فالمال يمكن أن يكون غاية بلا نفع للناس، فيكون ممحوقًا، ويمكن أن يكون سببًا لنفع الناس، والقرب من الله، فيكون مباركًا.
واستوقفتني الفواصل في أول السورة، فقد جاءت سبع آيات وكل فاصلة فيها تتعلق بما بعدها لفظًا، أي نحوًا، وهو ما يشبه في الشعر التضمين، ومن شواهده قول المجنون:


كأن القلب ليلةَ قيل يُغدَى = بليلى العامرية أو يُراح
قَطَاة عَزَّها شَرَكٌ فباتت = تُجاذبه وقد عَلِق الجناح


فخبر كأنَّ في البيت الآخر، وفي السورة: {في أدنى الأرض} حالت الفاصلة بينه وبين متعلقه قبله، ومثله: {في بضع سنين}، {بنصر الله}، {وعد الله}، {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا}، فكل فاصلة إذا وقفت عليها طلبت ما بعدها لفظًا: {غلبت الروم} يطلبها ما بعدها: {في أدنى الأرض}، {سيغلبون} يطلبها ما بعدها: {في بضع سنين}، وكذلك البواقي، وهذا يشير إلى فصول الوقائع يتمِّم بعضها بعضًا، ويكون لما تراه من الواقع بقية لما تقع، إلى أن يبلغ الأمر أن تكون الدنيا برمَّتها مقدمة للآخرة، وتكون الآخرة دارًا للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في الدنيا، لا تستغني دار الدنيا عنها، ولا تفهم إلا بها.
سورةٌ عجيبةٌ تستحقُّ مزيدًا من التأمُّل، ككل السور، ولكن منها ما لا يفتح الله بشيء من فهمه إلا بعد ترديد النظر حينًا بعد حين"].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين