ملامح سور القرآن: سورة الأحزاب

سورة الأحزاب هي في حفظ مقام النبوة وبيت النبوة، وبيان أنه - صلى الله عليه وسلم- يجري في كل شئونه على ما أمر الله، حتى إن الله يعاتبه ويأمره بتقواه، حتى قيل: لو كان كاتمًا شيئًا لكتم قوله: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)، فهو قد أسلم وجهه لله، وانقاد لوحيه، وأخذ الله ميثاقه كما أخذ ميثاق الأنبياء، فكان كما وصفه الله في هذه السورة {سراجًا منيرًا}، وكان للمؤمنين فيه إسوة حسنة. وهذا المعنى ملائم كما ترى لمعنى سورة السجدة، وهو التواضع لوحي الله، والتَّسليم له.

ومجيء سورة الأحزاب وهي معنية بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم- بعد سورة السجدة وهي في موضوع التواضع لوحي الله في قرآنه، يفيد إشارتها إلى التواضع للسنة النبوية واتباعها، ذلك أن صاحبها هو صاحب المقام الرفيع والأسوة الحسنة.

واستكمالًا لتوقيره وتشريفه وتكريمه أخبر الله أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا. والصلاة من الله ومن الملائكة الثناء والتكريم، والصلاة من الناس الدعاء أن يفعل الله به ذلك، كما حققه ابن القيم في جلاء الأفهام.

وعكسه اللعن، ومعناه من الله الإبعاد والبغض، وهو من الناس الدعاء بأن يفعل ذلك بمستحِقه، وقد جاء لفظ اللعن في هذه السورة خمس مرات، لأنه ضد الصلاة.

ولمَّا كان دعاء الله أن يزيده ثناءً وشرفًا، ويفعل به ما يرضيه ويكرمه، ويرفع قدره، توجهًا بالخطاب إلى الله تعالى - احتيج إلى خطاب آخر موجه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو السلام، لأن السلام في أصل معناه السلامة، والمراد به في العرف إظهار المودة والإيناس، وإيجاد الصلة بين المحيِّي والمحيَّا، فكان سلام المؤمنين علي النبي -عليه الصلاة والسلام- من هذا القبيل، حتى كأنه معهم يحيُّونه في ختام كل صلاة، ويستشعرون وجوده وجوابه السلام.

فالصلاة والسلام خطابان، أحدهما لله بالدعاء، والآخر للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتحية وإظهار المودة والإجلال والإكرام. قد أكد السلام بقوله: (وسلموا تسليمًا) ليدل على أنه تسليم حقيقي يُسمع ويُجاب وإن بعُد المكان أو كان بعد الوفاة، وجاء فيه حديث بإسناد حسن عند أبي داود وأحمد: «ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عز وجل إلي روحي حتى أرد عليه السلام»، ويشهد له حديث آخر صحيح في فضل يوم الجمعة: «.. فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ»، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

ولذلك كان في قولنا: صلى الله عليه وسلم - اختصار وإدماج، فإنه -صلى الله عليه وسلم- علَّم أصحابه الصلاة مستقلة بالصيغة المعروفة، ثم قال: «والسلام كما قد علمتم»، فهو منفصل كما في التشهُّد في آخر الصلاة. وانظر إلى قوله: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته)، ثم قال: (تحيتهم يوم يلقونه سلام)، فذكر الصلاة والسلام في شأن المؤمنين، كما ذكره في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل تحية السلام لهم في الآخرة لأنها يوم اللقاء.

والآيات في السورة تسير في خطَّين: هما الكلام على بيت النبوة وحق النبوة، والكلام على غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها على المؤمنين حزب المشركين وحزب المنافقين وحزب أهل الكتاب.

والعلاقة بينهما فيما يظهر أن اجتماع الأحزاب من حالات الضعف، وحالات الضعف يكثر فيها الطعن على الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن وسائل ذلك غمز البيت النبوي الكريم، والتعرض لعلاقته -صلى الله عليه وسلم- بنسائه أمهات المؤمنين، وتعديده الزوجات، وأخبار زواجه منهن، ومن شأن هؤلاء الأحزاب سب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتهوين شأنه، والتذرع إلى ذلك بذكر نسائه وسائر أهل بيته. وبهذه المناسبة ذكر في السورة إبطال التبني.

وقد أراد الله تعالى أن يرفع ذكره، وأن يستمر ذلك إلى يوم المقام المحمود والشفاعة العظمى، وكان لا بد من إنشاء هذا التوقير له في نفوس المؤمنين وذراريهم وقرونهم المتتالية، حتى يتوارثوا هذا الحب والتعظيم والتبجيل له، فيُحفظ على هذا السراج المنير بريقه وصفاء نوره، ولذلك جعل من خصوصياته ذكرَه مقرونًا بذكر الله، وثناء المؤمنين عليه مقرونًا بذكر الله وملائكته وثنائهم عليه، حتى لا تخدش هذه المكانة له في القلوب والألسنة. وعلى قدر طعن أحزاب المشركين والمنافقين وأهل الكتاب ومكرهم وسبهم واستهزائهم يجب أن يكون ثناء المؤمنين وتوقيرهم ودعاؤهم له بل يزيد، وهو المعبر عنه بالصلاة عليه والسلام.

وفي السورة أحكام بيت النبوة، لإحاطته بمزيد عناية وتشريف ورفعة، حتى لا تتجرأ عليه ألسنة ولا ظنون، إلا ظنون المنافقين والكفار وألسنتهم، وهؤلاء توعدتهم السورة بلعنة الله في الدنيا والآخرة وبالعذاب المهين.

ومن ههنا ذكرت السورة طرفًا من أخبار المنافقين وأفعالهم في غزوة الأحزاب، فهم الذين يؤذون رسول الله والمؤمنين، وانتهزوا فرصة هجمة الأحزاب للإرجاف والتخذيل وإثارة البلبلة وإضعاف صف المؤمنين.

ولعناية السورة بأحكام بيت النبوة جاء فيها التفصيل بذكر الرجال والنساء مما هو في سور أخرى يذكر بصيغة المذكر للعلم بأن النساء يدخلن في تلك الأخبار والأحكام، وههنا جاء: (إن السلمين والمسلمات) الآية، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية.

ومن العجيب جمع السورة الوعيد على أذى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأذى المؤمنين في سياق أمر المؤمنات بإدناء جلابيبهن، بل كان ذلك بأمره أن يأمرهن، كما قال في سورة النور: (قل للمؤمنين) و(قل للمؤمنات)، فصيانة عرضه من صيانة عرضهم، وأذاه من أذاهم، وهذا وجه من وجوه أنه أولى بهم من أنفسهم، كما جاءت أحكام الطلاق في سورة الطلاق مصدرة بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم.

وفي السورة نفي أبوَّة النسب عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)، فكل أبنائه مات قبل البلوغ، وإثبات أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بالنصيحة والحرص عليهم، فقال: (النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم أمهاتهم)، فيكون أحب إليهم من أنفسهم، وحقه مقدمًا على حقوقهم، وأن يكون له من التوقير والتبجيل ما يفوق كل موقَّر ومبجَّل.

وفي السورة عناية بالألفاظ من هذا الباب، فنهى الله عن الظهار والتبني، وقال في أولها: (ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)، وفي آخرها: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا)، ومن ذلك أنها أمرت بذكر الله كثيرًا وتسبيحه بكرةً وأصيلًا، وبالصلاة والسلام على نبيه، صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الوادي ذكر الصدق والصادقين ومدحهم، وذكر أقوال المنافقين، من نحو: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)، و(سلقوكم بألسنة حداد). حتى إن الأمانة المذكورة في آخر السورة إنما ذكرت بمناسبة أمانة القول، فهو أشد الأمانات، لأنه أسهل ما يأتي الإنسان وأكثره، فتضييع الأمانة فيه كثير، والظلم والجهل فيه كثير أيضًا.

وحديث الساعة كان بمناسبة وعيد المنافقين والمرجفين بعذاب الدنيا، فالآخرة أدهى وأمر، وفيه ندمهم ولعنهم السادة والكبراء الذين أطاعوهم وتركوا طاعة الله ورسوله، ودعاؤهم أن يضاعف لهم العذاب بما ضلوا وأضلوا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين