ملامح سور القرآن الكريم: سورة يوسف

مرَّ بنا في سورة هود على سبيل التحدي: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)، وإذا عَدَدْتَ من البقرة إلى هود فهذه عشر سور منزلات مفصَّلات مُحكمات، وهذا يدلنا على أن هذه العشر قسم على حدة، وأن ما بعدها قسم آخر من القرآن، وهو أيضًا عشر سور، عُدَّ من يوسف إلى الأنبياء، فهذا قسم آخر موضوعه قصص الأنبياء والأوَّلين والأنبياء واستشراف للمستقبل، والمستقبليات تجدها في الإسراء والكهف خاصَّة، ولم يشذ عن هذا إلا الرعد، فهي تعقيب على معنى في سورة يوسف، والنحل تعقيب على معنى في سورة إبراهيم والحجر المتصلة بها، كما سنرى، إن شاء الله. ثم يبدأ قسم ثالث من سورة الحج، هو وصل للأحكام المفصلة في القسم الأول بذكر طائفة أخرى، كما يتضح جليًّا في الحج والنور والأحزاب من السور المدنية، وما يختلط بها من سور مكية لمعانٍ وأغراض.

القسم الأول هو في نشأة الأمة المحمدية بشرعتها ومنهاجها ووصاياها، والقسم الثاني في قصص الماضين وما تنبئ به من شئون المستقبل، ولذلك تجد سورة يوسف تبدأ: (نحن نقص عليك أحسن القصص)، وهو قصص له خصوصية، وهو مختلف عما مرَّ بك، وتبدأ أيضًا: (إنا أنزلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون)، لأن هذه الأحداث جرت في بيئات غير ناطقة بالعربية، فها قد نقلها البيان الإلهي إلى هذا اللسان المبين، ليَعْرفها حملةُ الرسالة الأوائل من العرب ومن يلتحق بهم من الأمم الأخرى، فيجعلون القرآن العربي إمامًا لهم ولسانًا وبيانًا.

ولعلك قد رأيت فيما سلف من السور ذكر بني إسرائيل، بدءًا من قوله في البقرة: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)، فهذا أوان ذكر جذور قصة بني إسرائيل، فهذا إسرائيل نفسه، وهو يعقوب، عليه السلام، وهؤلاء بنوه، وأحدهم وواسطة عقدهم يوسف، عليه السلام.

فالغرض من سياقة القصة المذكورة في سورة يوسف التعرف على مبدأ شأن بني إسرائيل الذي يتردد كثيرًا في القرآن الكريم، وبهذه المناسبة سيقت هذه القصة الفريدة وما انطوى فيها من عبر وسنن اجتماعية وكونية، ولك أن تتبين هذه السنن في ثلاثة أنواع من التعقيبات على الأحداث، فالسورة هي سرد للأحداث وتعليق عليها، بعضها إلهي، ومنه التعقيب الختامي في آخر السورة، وبعضها على لسان يعقوب، وبعضها على لسان ابنه يوسف، عليهما السلام. وهذه السنن هي ما قال فيه في المفتتح: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين).

تأمل هذه التعليقات بأنواعها: (إن الشيطان للإنسان عدو مبين)، (وكذلك نجزي المحسنين)، (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)، (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون أم الله الواحد القهار ..) الآيات، (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)، (نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)، (فالله خير حفظًا وهو أرحم الراحمين ..) إلخ.

ومما يدل على أن الغرض الأول من سوق القصة هو شأن بني إسرائيل ما جاء في التعقيب عليها، من قوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) إلى آخر السورة، فهذا كله في شأن هؤلاء الذين كانت النبوة في آبائهم وفي من جاء بعدهم منهم، ولكنهم لم يقدروا هذا الفضل قدره، فعوقبوا وجرت عليهم الأقدار بما قصه القرآن في مواضع أخرى، ومن أبين الدلالة على ذلك قوله: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا..) الآيتين.

ثم سورة يوسف من بعد نموذج للداعية المفرد الذي تسوقه الأقدار إلى بيئة غير بيئته، ومجتمع غير مجتمعه، فيضطر إلى أن يصلح ما استطاع، وأن يدعو قدر جهده. ولذلك تجد في التعقيب على القصة بعد ختامها: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).

وفيها نموذج للإنسان الذي تجتمع عليه عاطفة الحب والكراهية، فقد أحبَّه أبوه حبًّا ساميًا، وأحبَّته امرأة العزيز حبًّا ساقطًا، وكرهه إخوته وكادوا له، وقد عانى من هذا الحب وهذا الكره ما عاناه.

وفيها نموذج للمكر السيئ بين الإخوة وبني العمومة والأقران، ولك أن توسع الدائرة ما شئت، ثم لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وتكون عاقبته للمكيد والممكور به خيرًا ورفعة، على خلاف ما قصد كائدوه، وعلى غير ما توقعوه وانتظروه.

ثم في العلاقة بين الرجل والمرأة وحدود ما شرع الله نجد نموذج المرأة المعتدية، بل جماعة النساء، وموقف يوسف -عليه السلام- في هذه الحالة هو أشد موقف، والعبرة فيه أن غير هذا الموقف يكون أهون منه، ويكون العذر فيه أبعد، فهو فتى في عنفوان الشبيبة، غريب ليس بين أهله وقومه، مملوك لا يملك أمر نفسه، والمرأة مولاته وذات منصب ومال وجمال، وهي المتعرضة المراودة، ومع كل ذلك قال: (معاذ الله!)، ثم كان توفيق الله له وعونه، وقد استعان به فأعانه وصرف عنه كيدها وكيدهن.

وفي السورة ما يدل على شؤم المعصية والظلم، إذ يبقى أثرها بعد مقترفها الأول أجيالًا تتلبس بمن هو من أهلها من العصاة، ويكون فيهم العرق الدسَّاس الذي يجذبهم إلى نحو ما كان في أسلافهم، إلا أن يتوبوا ويبرءوا من العصيان والعدوان.

وفيها كثير من هذا النمط الذي يمكن أن يستخرج بالتأمل والتدبر، ولا يمكن استقصاؤه أو الإحاطة به.

وأظن أن سبب ذكر قصة يوسف مرة واحدة في سورتها أن نظيرها في الواقع قليل الحدوث أعني في مجملها وهو حال يوسف من ابن محبوب مدلل إلى مملوك إلى ملك. والقرآن يشير بكثرة الذكر إلى كثرة الوقوع وبقلته إلى قلته كما نرى في قصة موسى وفرعون. ولهذا السبب لم تذكر تفصيلات قصص أنبياء كثيرين جاءت أسماؤهم في القرآن كيحيى واليسع وإدريس وزكريا في غير كفالته لمريم وتبشيره بيحيى على كبر وكأيوب في غير ابتلائه وصبره ودعائه ثم معافاته. فالمقصود من قصة يوسف بعد الغرض الأول وهو ذكر مبدأ شأن بني إسرائيل هو العلاقات بين الأقران وما يتصل به من بلاء. والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين