ملامح سور القرآن الكريم: سورة الإسراء

أنت الآن في قلب القرآن، قد وصلت إلى موضع داخل فيه، حيث لا تخطئ الأذن اختلاف النغمات، ولا العين تنوع الألوان، ولا العقل تجدد القصص، ولا القلب ارتفاع نبرة المعاني.

سورة الإسراء التي ذكرت الرحلة النورانية اكتفت في شأنها بآية واحدة، وتفرغت السورة برمتها لتبيان ما تشير إليه الرحلة، وما يترتب عليها ويتصل بها، من الأحكام والوصايا والأخبار.

تتحدث السورة عن وراثة هذه الأمَّة لتراث النبوات، فقد اجتمعت شرائع النبوات وأماناتها المعنوية والمادية في الرسالة الخاتمة، وحُملت الأمة هذه الأمانات، خلَّصتها مما شابها وأُدخل عليها، وأكملتها وهيمنت عليها، فكانت الدين الذي ارتضاه الله لعباده.

تبدأ السورة بتسبيح الله لتشير إلى العظمة الإلهية التي تقصر القدرة الإنسانية عن إدراك كنهها، أو الإحاطة بحكمتها، أو معرفة لطف تدبيرها، فالإنسان مفتقر على كل حال ولا سيما في حال ظهور الآيات إلى تنزيه الله عن التصور البشري القاصر، وعن الشكر القليل، وعن العمل الضئيل، بالقياس إلى الآيات والآلاء.

وسورة (سبحان) جاء التسبيح في أولها وفي وسطها وفي آخرها. في وسطها عند ذكر ما ينسبه المشركون إلى الله تعالى مما لا يليق به، وهو تسبيح يشارك فيه كل شيء وإن لم نفقه التسبيح: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

وبعد هذا يجيء ذكر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن ليدل على أن هذه القراءة هي أعظم التسبيح، لأنها ذكر لله بكلامه، الذي فيه خبره وأمره ونهيه. وفي ختامها يجيء قول المؤمنين الذين أوتوا العلم من قَبل القرآن إذا تلي عليهم يسجدون قائلين: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا).

ولما كان بنو إسراءيل آخر الأقوام الذين جعلت فيه النبوة، حتى إن عيسى عليه السلام أرسل إليهم - تجد عناية في القرآن كله بأمرهم، وفي هذه السورة يذكر خبرًا فريدًا عنهم ممتدًا من الماضي إلى المستقبل، وهو أنهم من شأنهم الإفساد في الأرض، ولهم فيها إفسادتان كبيرتان وعلو، يرسل الله عليهم بسببهما عبادًا له يؤدبونهم ويسوءونهم وينزلونهم من علوهم هذا، وهاتان الإفسادتان لهما ارتباط بالمسجد الأقصى، وتشير الآيات إلى أنهم يحوزونه، ولذلك إذا أرسل عباد الله عليهم دخلوا المسجد في المرتين. وتشير الآيات أيضًا إلى أن ذلك يتكرر في غير المرتين، وذلك قوله: (وإن عدتم عدنا).

وهذا من إخبار القرآن بغيب المستقبل، فإنه في زمن نزول القرآن لم يكن لبني إسرائيل شأن في المسجد الأقصى.

ومن هذا نفهم أن ميزان صحة هذه الأمة وقوتها مرتبط بمساجدها الثلاثة، ولا سيما الأقصى منها، أن يكون السبيل إليها مستطاعًا لمن أراد أن يشد الرحال إليها لذكر الله وتعظيمه وتسبيحه.

ولما كان القرآن قاعدة هذه الرسالة الوارثة للنبوات ومعجزتها وشرعتها تجد ذكر القرآن في السورة شائعا، بدءا من أولها: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) الآيتين، (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا) الآيات، (وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودًا. ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا) الآيات. وفي آخر السورة: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الآيات.

ومجيء قوله: (ويسألونك عن الروح) ثم : (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك)، يدل على أن تلقي القرآن تلاوة وتدبرًا وعملًا له صلة بالروح، ذلك أنه (شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا).

في السورة عناية بالزمن، ذلك أن لكل شيء أوانًا، والله لا يعجل بعجلة أحدنا، والإنسان عجول، ومن شأنه أن يدعو على الأعداء بالشر، يطلب رفع الظلم، ويستعجل إهلاك الله للظالمين، كما يدعو بالخير لنفسه، وقد وقَّت الله لكل شيء موعدًا، فإذا جاء الأجل لا يستأخر ولا يستقدم، فهذان الليل والنهار يعملان ويجدَّان السير، ولا بد أن يبلغ الكتاب أجله.

على أن الأمور تنال بأسبابها مع الدعاء، فإن هذه الأمة الوارثة للنبوات إذا ضعفت أو قصَّرت كان لا بد لها أن تراجع ما كانت به خير أمة، وهو دينها وأخلاقها ونظامها الذي به تعيش وبه تستحق الشهادة على الناس، ولذلك جاءت الآيات التي تبدأ من قوله: (لا تجعل مع الله إلها آخر)، ثم: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) - جامعة لخلال الخير والحق الممثلة لهُوية الأمة. وفي هذه الوصايا لباب ما يؤهل هذه الأمَّة لحمل الرسالة وميراث النبوة، وأن تكون في موضع القدوة، وهي تتصل بالتوحيد، والإحسان إلى الوالدين وذي القربى، وإنفاق المال، وحفظ النسل والنفس، ورعاية مال اليتيم، والوفاء بالعهد، والقسط في الحقوق المالية للناس، وتطلب العلم بأسبابه، والتطامن والتواضع في مسيرة الحياة، فالإنسان هو الإنسان بضعفه وخطاياه.

وفي السورة بيان للسنن في علو الأمم وتدميرها، ومع أن الأيام مداولة بين الناس، هي محكومة بقانون يقتضي الإمهال، حتى إذا كثر الفسوق والإفساد المتصلان بإمرة المترفين وقع القول وأتى أمر الله بالتدمير لقرى الظالمين.

ويتعلق بهذا أن الآيات بمعنى المعجزات المادية إذا أتت ثم كذب بها من شاهدها كان ذلك إيذانًا بوقوع العذاب، ولذلك جعل الله معجزة الرسالة الخاتمة التي وقع بها التحدي - كلامه المبين، وقرآنه الكريم، المحفوظ إلى آخر الزمان ليتدبر الناس آياته، وليُقرأ عليهم على مكث، ويجاهد به الدعاة جهادًا كبيرًا، وهو ليس مثل الآيات المحسَّة المُبْصَرة والمُبْصِرة التي كذَّب بها الأولون، لأنه يدرك بالبصيرة، وتفقهه العقول، وتلين له القلوب، فوقع الإمهال الموقوت بأجل معدود.

سورة الإسراء حشد كبير من المعاني والمشاهد والوصايا والأخبار، لا تكفي فيه كلمة قصيرة، ولكنها إشارات سريعة بحسب المقام، والله المستعان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين