ملامح الخوارج بين الماضي والحاضر

 

أخرج البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم عن علي رضي الله عنه: إذا حدّثتُكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلَأَنْ أخِرَّ من السماء أحبُّ إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدّثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم، حُدَثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرميّة، لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتُموهم فاقتُلوهم، فإن قتْلهم أجرٌ لمن قتَلَهم يوم القيامة».

أما قوله صلى الله عليه وسلم  : «حدثاء الأسنان»: فشباب، وهو الغالب عليهم، وأما «سفهاء الأحلام»: فعقولهم رديئة، قال الإمام النووي: يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل، وقوله صلى الله عليه وسلم : «خير البرية»، قيل: هو القرآن، ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد: القولُ الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك كقولهم: لا حكم إلا لله في جواب علي رضي الله عنه. كما ذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري».

إن من أحاط علماً بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم  المتعلقة بالخوارج، والواردة في الصحيحين وغيرهما، ومَن درس كتب عقائد أهل السنة والجماعة علم أن أجلى ملمَحين من ملامح الخوارج هما:

  1. من ملامح منهج الخوارج المتقدمين: التكفير بالكبيرة، وبعبارة ثانية: التكفير بما ليس كفراً... والقول: «ليس كفراً» هو بشرط أن يكون متفقاً عليه عند أهل السنة.

نعم.. قد يكون لبعض أئمة أهل السنة اجتهادٌ فيرى قولاً ما ـ أو شيئاً ما ـ كفراً؛ كقول الإمام أحمد في خَلق القرآن مثلاً، ولا تثريب عليه في اجتهاده؛ مع ضرورة تذكُّر أنّه ـ رضي الله عنه ـ كان يقول بأن من يقول بخلق القرآن كافر؛ غير أنّه لم يُكفّر الخليفتين المأمون والمعتصم بشكل صريح ومباشر، ولم يُفتِ بانتقاض ولاية أيٍّ منهما، ولم يدعُ الناسَ للخروج عليهما نتيجةً لذلك.

إنّ «الخوارجية» هي اصطفاءُ هذا القول ـ أو غيرُه ـ وإطلاقُ الحكم بالتكفير في هذه القضية، أو سواها؛ مع تجاهُل الأقوال الأخرى لأهل السنة بعدم التكفير، مع أنّ وجودَ الأقوال الأخرى شبهةٌ تدرأ من إطلاق القول بالتكفير؛ لأن الردّة لا تثبت إلا بيقين، ولا تثبُت بالشكّ.

وما دام أمرٌ ما فيه نزاعٌ بين أهل السنة في كفريّته، فالتكفير به تكفيرٌ بظنّي يضعف عن الصمود أمام اليقيني الذي هو الإسلام السابق لدى المتهَم بالكفر.

ومن الصور المعروفة لذلك تكفيرُ الخوارج الأولين للصحابة، فهو فرع عن تكفيرهم بما ليس كفراً، وكلنا نعلم كيف رمَوا سيدنا علياً بأنه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحكم بالقرآن والشرع المطهّر.

ويتجلى هذا الملح الرئيسي لدى أفراخهم اليوم التكفيرُ بما هو ليس كفراً أصلاً، أو بما هو ليس القولَ الراجح في التكفير، أو التكفير بالمختلف فيه، والتساهل في إطلاق حكم التكفير، وعدم استعظام هذا الإطلاق.

إنّ منهجَ النبي صلى الله عليه وسلم  يُعلّمنا أنّ الحدود تُدرأ بالشبهات، وأنّه لقّن السارقَ ما يُسقط عنه حَدّ السرقة، وأنه تجاهل اعتراف المعترف بالزنا حتى أقر على نفسه أربع مرات، ثم أخذ يسائله حتى لا تبقى أية شبهة تدرأ عند حد الزنا

أما خوارج العصر... فيُظهرون الاعترافَ بهذا بألسنتهم عند الحديث عن الحدود العقابية المختلفة، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم : «يقولون من خير قول البرية»، ولكنهم لا يطبقون هذا المنهج، كما تشهد بذلك فتاواهم ومحاكماتُهم وقرارتها المنشورة عنهم.

وكذلك عند الحديث عن الموضوع الشهيّ اللذيد «الردة»؛ فإنك تجدهم ـ عملياً ـ رافضين له، رادّين لاعتبارِ أية شبهة تدرأ التكفيرَ عن مخالفيهم من المسلمين، حريصين على توسيع باب التكفير ليشمل أكبر كمّ من الأفعال والأقوال والأحوال، وليدخل فيه أكبرُ عدد ممكن من الناس؛ وكأن الجنة ضاقت عن أن تحويَهم مع مخالفيهم؛ ثم تجدهم يتشدقون بالقول: وهل نكفّر إلا من كفّره الله ورسوله ؟!

نعم أيها الخوارج ! إنكم تكفّرون من لا يوافق فهومَهكم المبتورة للكتاب والسنة، وأقوالَكم المقطوعة الأسانيد عن الأمة التي تناقلت دينَها خلفاً عن سلف تتمسّحون بهم، وتتشبّثون بأذيالهم وهُم منكم بُرءاء، وتحوّرون وتُجيّرون أقوالهم، وتعجزون عن الإتيان إلا بنصوصٍ مبتورة من هنا وهناك؛ تنقلونها من بعض مصادرِ فقهاء أنتم ـ أصلاً ـ تضللونهم وتبدّعونهم بدعاوى أنهم أشعرية، أو متصوفة، أو قبوريون، وما إلى ذلك.

  1. أما الملمح الثاني فهو «السيف» كما اصطلح على ذلك السلف والخلف ، والمراد به استحلال دم المخالف.

وهذا ـ على التحقيق ـ ثمرةٌ للأول؛ لأن عصمة دم المسلم تثبُت أولاً بسبب إسلامه، فإذا أزيلت عنه صفة الإسلام والحُكم به؛ سَهُل بعد ذلك إزالةُ عصمة دمه.

وقد كان للخوارج المتقدّمين فظائع وقصصٌ عن جرأتهم على سفك دماء المسلمين خاصةً، ولم يختلف عنهم أفراخهم اليوم الذين يقومون بجرائم تنخلع لها القلوب فاقت ما أتاه أسلافهم شناعة وبشاعة وترويعاً للآمنين معصومي الدماء من المسلمين وغير المسلمين الذين لهم بين المسلمين بضعة عشر قرناً.

  1. ومن ملامح الخوارج: الافتئات على ولاية أمور المسلمين، والاحتكام إلى السيف والقوة؛ مثلهم مثل قطاع الطرق ومافيات المخدرات.

في حين أن شرعية الحاكم تأتي من رضا الأمة به، كما أثبتَت السنّـةُ البوية الشريفة ذمّ المُلك الجبري الذي لا يكون عن رضا الناس بالقائم به المتغلب عليه بالسيف أو «ألديكتاتورية» بتعبير عصريّ.

وما دام الناسُ مسلمين؛ فإنهم لن يرضَوا إلا بحاكم مسلم يطيع أمر الله فيهم، ويحقّق مقاصد الإمامة الشرعية من العدل، وتحقيق كرامة الإنسان، وفتح أبواب الدعوة إلى الله تعالى دون قسر ولا إكراه.

وأمة المسلمين كافةً ـ لا شراذم منهم ـ شهودُ الله في الأرض، فمن رضُوه كان رضاهم أمارة على رضا الله، ومن سخطوه كان سخطهم أمارة على سخط الله.

تذييل ونتيجة:

لقد حددت الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة الكثيرة، وكتب عقائد اهل السنة والجماعة ملامح رئيسية وفرعية لكل فرقة من أهل الضلال والانحراف؛ كالمعتزلة، والرافضة، والخوارج، وغيرهم.

ولم يحصل أن اجتمعت كلُّ الملامح (الرئيسية والفرعية) لأية فرقة من فرق الضلال الكبرى في فرقها المتشعّبة، ومن طالع كتب العقائد والفرق وجدَ أن المعتزلة انقسمت إلى فرق كثيرة، وأنّ الرافضة انقسمت كذلك إلى فرق كثيرة، وأنّ الخوارج انقسمت إلى فرق كثيرة؛ كلها

تشترك بالملامح الرئيسية، وتختلف في الفرعية.

وكان علماؤنا ولا يزالون يُطلقون وصف «المعتزلة» على كل شتات فرقهم المتناحرة، ويُطلقون وصف «الرافضة» على طوائفهم المختلفة التي قد يكفر بعضها بعضاً، ويُطلقون اسم «الخوارج» على فرق تجمعها ملامح بدعٍ رئيسة وتفرّقها بدع صغيرة.

ومن أمثلة ذلك: إنكار الشفاعة الذي ليس هو من أسس مذهب الخوارج، بل هو ثمرةُ الانحراف واتباع الهوى فحسب؛ ومن ثماره الأخرى أن أنكر بعضهم الشفاعة، وأنكر بعضُهم الرجم، وأنكر بعضُهم أن تكون سورة يوسف من القرآن... إلخ.

إننا بحاجة إلى أن نؤصل أولاً بناءً على ما هو في كتب عقائد أهل السنة والجماعة، وكتب الفِرق، ثم إن انطبقت الأوصاف على «داعش» وأخواتها فهي كذلك، وإن لم تنطبق فليست كذلك.

أما أن تُهدم الأصول، وتُخرّب الموازين، وتُهدر أحاديث السنة، ويُرمى بما استنبطه منها علماء اهل السنة والجماعة؛ خوفاً على «داعش» وأخواتها مما تُرمى به، فهذا هو الذي يؤمر صاحبُه بتقوى الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين