مقوِّمات القوة في الأمة

إن هذه الأمة المسلمة تملك من الطاقات والمقوِّمات ما يجعلها في طليعة الأمم، ويمنحها مكانته، ومن هذه المقوِّمات:

القوة العددية:

فهذه الأمة تملك طاقة بشرية ضخمة تقدَّر بنحو مليار وربع المليار من المسلمين في أنحاء العالم، وهي أمة خصبة ولود، فهي في زيادة وغيرها من الأمم في نقص مستمر، وقد امتنَّ الله بكثرة العدد فقال سبحانه على لسان نبيه: [وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ] {الأعراف:86}.

ولكن العبرة ليست بالكم بل بالنوع، لذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عصر: (يوشك أن تتداعي فيه الأمم عليكم... ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن...) شبههم مع كثرتهم بالغثاء الذي يحمله السيل من القش والأوراق وهي تشرك في الخفة والسطحية، وعدم التجانس، وفقدان الهدف من مسيرها...

وفرق بين ماء النهر وماء السيل: إن ماء النهر له مصب معلوم، ومجرى مرسوم، أما السيل فلا تعرف له غاية، ولا يعلم له خطر، ولهذا يخرِّب ولا يعمِّر، ويفسد ولا يصلح.

ولهذا يجب الاستفادة من القوة البشرية بحسن تربيتها، وتوثيق روابطها، وفتح المجالات لها، وربطها بأهداف كبرى تعيش من أجلها، فتجد للحياة معنى وطعماً.

القوة المادية:

وتملك هذه الأمة الطاقة المادية والاقتصادية، فهي تملك مساحات واسعة للزراعة لو وجدت ممن يحسن استغلالها... وهناك من المعادن والثروات المدفونة في باطن الأرض مالا يملكه غيرها... وتستطيع أن تقيم تكاملاً اقتصادياً، بحيث يتمم بعضها بعضاً، وأن تنتفع من الثروات الاقتصادية...

القوة الروحية:

وتملك الأمة ـ قبل ذلك كله ـ القوة الروحية المستمدة من الرسالة التي أورثها الله إياها، وميَّزها عن سواها، ومنحها ـ وحدها ـ الوثيقة السماوية الوحيدة التي تتضمن كلمات الله الأخيرة إلى البشرية، أعني القرآن الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و الذي تولى الله حفظه فلم ينقص من جملة ولا كلمة ولا حرف [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}.

هذه الرسالة تتميز بالشمول فهي الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة... وتتميز كذلك بالتوازن، فهي تصل الأرض بالسماء، وتمزج المادة بالروح، وتربط الدنيا بالآخرة، وتدعم العلم بالإيمان.

وتتميز هذه الرسالة بملاءمتها للفطرة، ومراعاتها للمصلحة، وتيسيرها على الناس، وتكليفهم ما تسعه طاقتهم، وتقدير ظروفهم، ووضع الآصار والأغلال التي كانت عليهم:[ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] {الأعراف:157}.

وتتميز بسماحتها مع مخالفيها في الدين، فهي تعترف بالآخر، ولا تلغيه، ما دام لا يقاتلها في الدين، ولا يظاهر عليها عدواً.

وقد وضع الله دستور العلاقة مع المخالفين في آيتين كريمتين:[لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {الممتحنة:8-9}.

والبشرية أحوج ما تكون إلى هذه الرسالة الحنيفية السمحة بعد أن أشقتها المادية المسرفة، والإباحية المتلفة، والعصبية المجحفة، ولكن الرسالة لا يقدمها إلا أمة تتمثلها وتجسدها في حياتها، فتقدم للناس النموذج العمليَّ الذي يقتدى به، فيهتدي، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

وإنما تستطيع الأمة أن تثبت وجودها، وتؤدي رسالتها، إذا حددت هويتها وأساس انتمائها، ولا هوية لها بغير الإسلام، فهو محور حياتها، وروح وجودها، وسر لقائها، وصانع حضارتها ومكوِّن وحدتها.

وقد قال الفاروق بحق: نحن كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز من غيره أذلنا الله.

ويترتب على هذا أن نحدِّد المرجعية العليا لحياتها، التي يحتكم الناس إليها إذا اختلفوا، ويرجعون إليها إذا شردوا، وما دامت أمة مسلمة فلا مرجع لها غير الإسلام...

وأن تجسِّد إسلامها الذي تعتزُّ به في علوم ,اخلاق وأعمال، ولا يبقى مجرد شعارات تُرفع، أو دعاوى تُدَّعى، أو أقوال تقال: فإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.

إن رسول الله جعل الغاية من رسالته أخلاقية: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وأثنى عليه ربه فقال: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.(كان خلقه القرآن).

وإنما تستحق الأمة الانتساب إليه إذا اتخذت من أخلاقه وهديه أسوة كما قال تعالى:[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}.

وأول هذه الأخلاق: التجرد لله والانتصار على شهوات النفس ونزعات العصبية للقبيلة أو الحزب... فقد رأينا العصبيات العرقية والقبلية حطمت الأمة  وأحرقت ثمرة جهادها، وحب حصادها.

ونرى العصبيات الحزبية تمزق الأمة شر ممزق، وتفتح لعدوها ثغرة ليدخل منها ويعبث بمقدراتها.

وثاني هذه الأخلاق أن تخرج الأمة من العجز والكسل إلى أفق الإنتاج والعمل، ولا تكتفي بأيِّ عمل، بل تعبد الله بإحسان العمل، فإحسان العمل فريضة كتبها الله على المؤمنين كما كتب عليهم الصلاة والصيام: (إن الله كتب الإحسان على نفسه...).: (إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه).

لقد أخرتنا أخلاق الضعف والسلبية، فلنتمسك بأخلاق القوة والإيجابية: (المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)، (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل...).

إن الأمة مطالبة بأن تقدِّم شيئاً للبشرية، ولن تفعل ذلك وهي كلٌّ على غيرها في العلم والعمل، تستورد غذاءها كما تستورد سلاحها، ولا يفع لها التغني بالماضي إذا لم تصل أسبابه بالحاضر.

كل من بعث إليهم رسول من الرسل فهم أمة له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة فالعالم كله بشرقه وغربه وعجمه وعربه ـ أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم.

أمة الإجابة:

التي استجابت لدعوته وآمنت به ودخلت في دينه.

وأمة الدعوة:

وتشمل سائر العالم بعد ذلك.

والأمة حقيقة بمنطق الدين...: (مثل أمتي كالمطر لا يُدرى....)، (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق...)

وهي حقيقة بمنطق التاريخ

أعمى يقود بصيراً لا أباً لكمو=قد ضلَّ من كانت العميان تهديه!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين