مقدمة السبكي لـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

وبعد: ففي مقدمات العلماء لمؤلفاتهم فوائد غزيرة، وهي متفاوتة في الأهمية، وبعضُها أميز من بعض، ومِن هذه المقدمات المُميزة -على وجازتها-: مقدمة الإمام تقي الدين السبكي (683 - 756) لكتابه "تكملة شرح المُهذَّب = المجموع" للإمام النووي (631 - 676)، وقد ختمَها -رحمه الله تعالى- بذكر مصادره، فبدأ بما عنده من الكتب عن الكتاب المشروح: (المُهذَّب)، وأوردَ (22) عنوانًا، ثم ذكرَ الكتب المذهبية، ثم كتب الشافعية العراقيين وأتباعهم، ثم كتب الشافعية الخراسانيين، ثم كتب الشافعية في الخلاف، ثم كتب المذهب الحنفي، والمالكي، والحنبلي، ثم كتب الآثار، ثم كتب الظاهرية، [مع أن النووي لم يُدخل في كتابه شيئًا مِن مصنَّفات ابن حزم]، ثم كتب متون الأحاديث: المرتبة على الأبواب، والمرتبة على المسانيد، ثم كتب رجال الحديث وعلله، ثم شروح الحديث، ثم كتب اللغة.

ويرى القارئُ في هذه المقدمة علمًا وأدبًا وعقلًا وفضلًا، وهي جديرةٌ أنْ تُدرَّسَ، وتُشرحَ، ويُلفتَ نظرُ طلاب العلم إلى ما احتوته مِن فوائد فرائد، ولهذا رأيتُ أنْ أفردَها بالنشر، وأضعها تحت أنظارهم، وأنظار الباحثين عامة.

وقد انتبه الحافظُ المؤرِّخُ السخاوي (831- 902) إلى أهمية هذه المقدمة فأوردَها -بحذف الديباجة، واختصارٍ، وتصرُّف يسير، وطيِّ المصادر وذكرِها- في كتابه: "المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي" ص (99-100).

***

ومن فوائد هذه المقدمة:

1-حُسن الثناء على الله تعالى.

2-ذكر الإمام النووي بأجمل الأوصاف.

3-بيان منزلة كتابه "شرح المهذب" بحيث يستهولُ السبكي (الإمامُ) الإقدامَ على إكماله.

4-هضم السبكي نفسه، وتواضعه الكبير.

5-لوازم التأليف النافع.

6-استخارة المؤلف قبل شروعه في التأليف.

7-الاستعانة بالله تعالى في ذلك.

8-ذكر المصادر التي رجع إليها وأفاد منها.

9-تقسيم المصادر حسب أنواعها وأصنافها ومناهجها.

10-ضرورة العناية بكل ما يتعلق بالكتاب المشروح. (والمدروس). وفي ذكرهِ (22) كتابًا على "المهذب" إشارةٌ مهمةٌ إلى هذا الأمر المنهجي المهم.

11-في المصادر ما هو مجهولُ المؤلِّف. وهذا يُلقي الضوء على التعامل مع هذا النوع من المؤلفات.

12-شكر الوالدين والمشايخ بالدعاء لهم.

13-الدعاء للكتاب أنْ يكثر نفعه ويدوم. وفي ذلك دعاءٌ ضمنيٌّ للقرّاء أن ينتفعوا به.

***

وهذه هي تلك المقدمة، مِنْ غير ذكرِ "المصادر"، حتى لا يطول الأمر على القارئ، وهي هناك (10/4-10) فلينظرها مَن أحبَّ، وقد وقعتْ فيها (في طبعة دار الفكر) أخطاء مطبعية فيها فليُنتبه إلى ذلك.

وأقول أخيرًا: هيأ اللهُ تعالى بفضله مَن يقوم بتحقيق "المجموع"، و"تكمليته" للسبكي، والمطيعي، على وجهٍ مرضيٍّ نافعٍ معقولٍ.

***

قال الإمامُ تقي الدين السبكي:

(بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحات وتثمِر، وبفضله يأبى إلا أنْ يُتم نورَه ويُظهِر.

أحمدُه حمدَ معترفٍ بالعجز مقصِّر، وأثني عليه بأني لا أحصي ثناءً عليه وأستغفِر.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مُعلنٍ بالإيمان ومُظهِر، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المبشِّر المنذِر.

صلى الله عليه وسلَّم، وشملَ أصحابَه بالرضوان وعَمَّم.

أمّا بعدُ:

فقد رغب إليَّ بعضُ الأصحاب والأحباب، في أنْ أكملَ "شرح المُهذَّب" للشيخِ الإمامِ العلامةِ علمِ الزُّهادِ، وقدوة العُبّاد، واحدِ عصره، وفريدِ دهره، مُحيي علوم الأولين، وممهِّد سَنن الصالحين، أبي زكريا النَّووي -رحمه الله تعالى-، وطالتْ رغبتُه إليَّ، وكثر إلحاحُه عليَّ.

وأنا في ذلك أقدِّمُ رجلًا وأؤخِّر أخرى، وأستهولُ الخطبَ وأراه شيئًا إمرًا، وهو في ذلك لا يَقبلُ عذرًا.

وأقول: قد يكون تعرُّضي لذلك مع تقعُّدي عن مقام هذا الشرح [عند السخاوي: مع قصوري عن مقام هذا الشارح] إساءةً إليه، وجنايةً منّي عليه.

وأنّى أنهضُ بما نَهضَ به وقد أُسْعِفَ بالتأييدِ، وساعدته المقاديرُ فقرَّبتْ منه كلَّ بعيدٍ؟

***

ولا شك أنَّ ذلك يحتاج بعد الأَهلية إلى ثلاثة أشياء:

أحدها: فراغ البال، واتساع الزمان، وكان -رحمه الله تعالى- قد أُوتيَ مِنْ ذلك الحظ الأوفى، بحيث لم يكن له شاغلٌ عن ذلك مِنْ نفسٍ ولا أهلٍ.

والثاني: جمع الكتب التي يُستعان بها على النظر، والاطلاع على كلام العلماء، وكان -رحمه الله- قد حصل له مِنْ ذلك حظٌّ وافرٌ؛ لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.

والثالث: حسن النية، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقتْ أنوارُها، وكان -رحمه الله- قد اكتال [مِنْ ذلك] بالمكيال الأوفى.

فمَنْ يكونُ اجتمعتْ فيه هذه الخلالُ الثلاثُ أنّى يُضاهيهِ أو يُدانيهِ مَنْ ليس فيه واحدةٌ منها؟

فنسأل اللهَ تعالى أنْ يُحسِّن نياتنا، وأنْ يُمدّنا بمعونتهِ وعونهِ.

***

وقد استخرتُ الله تعالى وفوضتُ الأمر إليه، واعتمدتُّ في كل الأمور عليه، وقلتُ في نفسي: لعل ببركة صاحبهِ ونيته يُعيننى اللهُ عليه، إنّه يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، فإنْ مَنَّ اللهُ تعالى بإكمالهِ فلا أشك أنَّ ذلك مِنْ فضل الله تعالى ببركة صاحبه ونيِّته، إذ كان مقصوده النفع للناس ممَّنْ كان.

***

وقد شرعتُ في ذلك مستعينًا بالله تعالى، معتصِمًا به، ملتجِئًا إليه، إنه لا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل، وإيّاهُ أسألُ أنْ يَغفر لي، ولوالدي، وأهلي، ومشايخي، وجميع إخواني، وأنْ يُكْثر النفعَ به، ويجعلَه دائمًا إلى يوم الدين.

***

وها أنا أذكرُ -إنْ شاء اللهُ تعالى- الموادَّ التي أستمدُّ منها:

فمنها: ما هو عندي بكماله.

ومنها: ما عندي ما هو مِنَ الموضع الذي شرعتُ فيه الآن.

وها أنا أسمِّي لكَ ذلك كلَّه...).

***

قلت: والموضع الذي شرعَ منه: مِن أثناء "كتاب الربا".

وانتهتْ كتابتُه إلى "التفليس".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين