مقامات السابقين.. مع كتاب رب العالمين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث بالوحي المبين، وعلى آله وصحبه الأكرمين، أما بعد:

«حادثوا هذه القلوب بذكر الله، فإنها سريعة الدثور، وربيعها القرآن، فإنه إمـام المؤمنين، اتهموا عليه رأيكم، واستغشوا عليه أنفسكم، وإياكم والأهواء والعجب والتزكية، القرآنَ القرآنَ، فإنه شافع مشفع، وماحل مصدق، والله ما دون القرآن من غنى، وما بعد القرآن من فقر»([1]).

بهذه الكلمات الجليلة والموعظة البليغة خاطب شمس الواعظين في زمانه الحسن البصري رحمه الله أبناء زمانه، وكأنه اقتبس شعبة من الدعاء المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أسألك بكل اسم هو لك...أن تجعل القرآن ربيع قلبي»([2]).

إن الناظر في حياة السلف مع القرآن لا ينقضي عجبه ولا ينقطع ذهوله! حياة بالقرآن وفي القرآن وللقرآن! وكأنهم لما سمعوا عائشة رضي الله عنها واصفة النبي صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن»([3]) راموا التخلق بهذه الأخلاق، فقروءه وتدبروه، وعرضوا أنفسهم عليه وعرضوه على أنفسهم، حتى جعلوه مقياسا يزنون به أحوالهم فقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله»([4])، وهو رضي الله عنه القائل: «من أحب القرآن فليبشر»([5])، وهذا المركزية والمعيارية القرآنية ليست بغريبة على ذاك الجيل المبارك، فهذا ذو النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا»([6]).

لقد سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته وأمره: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه»([7]) فعقلوها والتزموها، بل بلغ الأمر بأن يعد بعضهم قراءته أعظم القربات وأجل الطاعات، فعن فروة بن نوفل الأشجعي -وكان من التابعين- قال: «كنت جارا لخباب بن الأرت رضي الله عنه، فخرجت يوما من المسجد، وهو آخذ بيدي، فقال: تقرب إلى الله عز وجل بما استطعت؛ فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه»([8]).

وكان من عادتهم المداومة على قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، بل وعلى كل الأحوال، فقد صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إني لأقرأ عامة حزبي، وأنا مضطجعة على فراشي»([9]) ولا عجب! فهي القائلة: «كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: يتَّكئ في حجري وأنا حائض، ويقرأ القرآن»([10])، ومما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: «إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره»([11]).

وقد كان القرآن مفزعهم عن الكروب وأنيسهم عند الشدائد، فقد سئل عبد الله بن عياش الزُّرَقي -وكان من أصحاب علي رضي الله عنه: أخبرنا عن هذا الرجل -علي بن أبي طالب-، فقال: «كان إذا فزع، فزع إلى ضرس حديد» فقيل له: ما ضرس حديد؟ قال: «قراءة القرآن، وفقه في الدين، وشجاعة وسماحة»([12]).

وكان من دأب ذلك الرعيل المبارك أخذ القرآن بالتؤدة وقراءته بالتدبر، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «لا تهذوا القرآن كهَذِّ الشِّعر»([13])، وقد رأت صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قوما قرءوا سجدة فسجدوا، فنادتهم: «هذا السجود والدعاء فأين البكاء»([14])، وهذه الحال هي ما كان يرجوه الصحابة رضي الله عنهم ويحرصون عليه، فقد قدم قوم من أهل اليمن في زمن أبي بكر رضي الله عنه فسمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر الصديق: «هكذا كنا ثم قست القلوب»([15])، وفسر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني كلمة أبي بكر الصديق فقال: «ومعنى قوله: قست القلوب ، قويت واطمأنت بمعرفة الله تعالى».

وكذلك كان الفاروق عمر رضي الله عنه، فقد حكى ابنه عبد الله قال: «صليت خلف عمر فسمعت حنينه [يعني أنينه] من وراء ثلاثة صفوف»([16])، وعمر هو الذي حكي عنه أنه : «كان يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضا»([17])، وقد قرأ يوما {إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع} قال: فربا منها ربوة عِيْدَ منها عشرين يوما([18]).

وهذا التابعي أبو رجاء العطاردي يقول: «كان هذا الموضع من ابن عباس -مجرى الدموع-، كأنه الشراك البالي من الدموع»([19]).

وما ذكرناه عن عثمان رضي الله عنه ألَّا يخلو يوم المسلم وليلته هو ما درج عليه الصحابة والتابعون من بعدهم، وقد أوصى ابن مسعود رضي الله عنه أصحابه يوما: «أديموا النظر في المصاحف»([20])، وقال لهم: «إنما هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره»([21])، وأما التابعون من بعدهم فهذا أبو العالية الرياحي رحمه الله يقول: «كنا نعد من أعظم الذنب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام لا يقرأ منه شيئا»([22])، وكان عروة بن الزبير «يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف ويقوم به ليله فما تركه إلا ليلة قطع رجله»([23])، وعن يونس بن عُبيد قال: «حدّثني مولى للأحنف بن قيس -وكان من سادة زمانه شرفا ومكانة- أنّه قال: إنّ الأحنف كان قَلّ ما خلا إِلَّا دعا بالمصحف، قال يونس: وكان النظر في المصاحف خُلقًا من الأوّلين»([24])، و«قيل لأخت مالك بن أنس ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ قالت: المصحف والتلاوة»([25]).

وهذا التابعي الجليل أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يوصي الشباب فيقول لهم: «يا معشر الشباب، اغتنموا -يعني: قوتكم وشبابكم- قلما مرت بي ليلة إلا وأنا أقرأ فيها ألف آية، وإني لأقرأ البقرة في ركعة»([26])، ومن قبله حكى ابن جريج، قال: «أخبرني نافع، أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقرأ البقرة في ركعة، وكان بطيء القراءة»([27]).

وهذه الهمة العلية إنما أورثها خوف الآخرة ورجاء الجنة، وقد دخل الأشتر النخعي يوما على علي بن أبي طالب وهو قائم يصلي بالليل وقد تولى الخلافة، فقال له: «يا أمير المؤمنين، صوم بالنهار وسهر بالليل، وتعب فيما بين! فلما فرغ علي من صلاته قال له: سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل»([28])، ومن ذلك ما روي عن صالح بن بشير المري -وكان واعظ البصرة في زمانه- أنه كان إذا قص [أي: وعظ] قال: «هات جؤنة المسك والترياق المجرب» - يعني القرآن - فلا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف([29]).

وكانوا يقرؤون القرآن للعمل كما قال الحسن البصري رحمه الله: «إن من كان قبلكم رأوه [أي: القرآن] رسائل إليهم من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار»([30])، وما أحسن كلمة مجاهد بن جبر رحمه الله: «القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة فيقول رب جعلتني في جوفه فأسهرت ليله ومنعته كثيرا من شهواته ولكل عامل عمالة، فيقول: ابسط يدك أو يمينك، فيملوؤها من رضوانه ولا يسخط عليه بعدها»([31]).

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا، ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه فليس من أهله، وإن أقام حروفه وإقامة السهم»([32]).

هكذا كان حال الأولين من السابقين الصادقين، الأنصار والمهاجرين، ومن تبعهم من المحسنين.. حالهم في أيامهم المعتادة.. فأما إذا ما أقبل رمضان فذاك العجب العجاب، والخبر الذي يأخذ الألباب، وناهيك بها ما حكاه ابن عباس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»([33]).

اللهم اسلكنا في نظام العابدين، واجعلنا لكتابك من التالين الذاكرين.. آمين آمين..

 



([1]) «الزهد» لابن المبارك (ص:91)، و«مختصر قيام الليل» لمحمد بن نصر المروزي (ص:169)، و«أدب النفوس» للآجري (ص:271).

([2]) «مسند أحمد» «3712» (ط الرسالة)، وانظر تخريجه بتوسع هناك.

([3]) «مسند أحمد» «24601» (ط الرسالة)، وانظر تخريجه بتوسع هناك، وأصل الحديث في «صحيح مسلم» [141 - (746)] دون اللفظة المقصودة.

([4]) «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص:52).

([5]) سنن الدارمي  (4/2093) «3367».

([6]) «الزهد» للإمام أحمد بن حنبل، برقم: «680»، وهذا الخبر من زوائد عبد الله بن الإمام على أصل أبيه.

([7]) «صحيح مسلم» [252 - (804)].

([8]) «فضائل القرآن» لأبي عبيد (ص:77)، و «المصنف» لابن أبي شيبة (16/445) «32095» وغيرهما.

([9]) «المصنف» لابن أبي شيبة (5/ 376) «8799».

([10]) متفق عليه، «صحيح البخاري» «297»، و«صحيح مسلم» [15 - (301)].

([11]) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 126).

([12]) «فضائل الصحابة» للإمام أحمد «975».

([13]) «الآثار» لأبي يوسف القاضي «233»، «سنن سعيد بن منصور - بداية التفسير» ت: الحميد (2/444) «147».

([14]) «المصنف» لابن أبي شيبة «38270».

([15]) «فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص:135)، و«حلية الأولياء» (1/33).

([16]) «الرقة والبكاء» لابن أبي الدنيا «416» ، و«حلية الأولياء» (1/53).

([17]) «حلية الأولياء» (1/51).

([18]) «فضائل القرآن» لأبي عبيد (ص: 136).

([19]) «فضائل الصحابة» للإمام أحمد (2/952).

([20]) «المصنف» لابن أبي شيبة «32178».

([21]) «المصنف» لابن أبي شيبة «32005».

([22]) ­«الزهد» للإمام أحمد (ص: 245).

([23]) «حلية الأولياء» (2/178).

([24]) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (9/94).

([25]) «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/18).

([26]) «المحجة في سير الدلجة» لابن رجب الحنبلي (ص:421).

([27]) «المصنف» لعبد الرزاق الصنعاني (2/543).

([28]) «حلية الأولياء» (2/178).

([29]) «حلية الأولياء» (6/167).

([30]) «قوت القلوب في معاملة المحبوب» لأبي طالب المكي (1/107).

([31]) «الزهد والرقائق» لابن المبارك «806».

([32]) «زاد المعاد» (1/402).

([33]) متفق عليه، «صحيح البخاري» (6)، و«صحيح مسلم» [50 - (2308)].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين