مقاصد الإسلام -6-

 

 

1- أعظم مقاصد الإسلام العدالة:

وإنَّ العدالة هي المبدأ العام الشامل في الإسلام، وهي الميزان الثابت الذي لا يَقْبل التغيير ولا التبديل، وقد يختلف ما يُوزن به، ولكن لا يختلف في ذاته؛ لأنَّ العدالة مقياس الحقائق، ومقياس الحقائق كموازين الأشياء لا تتغيَّر وإن تغير ما يُقاس بها، والعدالة كما نوَّهنا تتنوَّع وتتشعَّب.. 

فهي تشمل أولاً: العدالة القانونية، بأن يكون القانون المطبَّق واحداً، وأن يُطبَّق على الناس بقدر واحد، فلا يكون لطبقة قانون، ولأخرى قانون آخر، كما كان الشأن عند اليونان والرومان في القديم! فقد كان العبيد يُعاملون بغير قانون الأحرار! وكما هو الشأن في الأمم المتحضِّرة، فإنَّ تطبيقها للقوانين يختلف، وقوانينها مختلفة، فقانون الملوَّنين غير قانون البيض، وقوانين الأوربيين والأمريكان غير قوانين غيرهم، ولا يطبق على غيرهم ما يطبق عليهم!

فإذا مُنيت أمَّة باستعمارهم، فإنَّها في بلادها تطبق قانوناً مَبْنياً على أساس المساواة، وتطبق على الأمَّة التي مُنيت بها قانوناً قائماً على أساس المفارقة الجنسيَّة، أو العنصرية، أو الدينية، وفي بلادها لا يطبق القانون على سواء: فالملونين فيها لا يطبق عليهم ما يطبق على جيرانهم من أهل هذا البلد الأوروبي! 

ولا شك في أنَّ هذا لا يؤدي إلى سلام واطمئنان، لأنَّ الظلم لا يمكن أن يؤدي إلى سلام واطمئنان.

2 – وإنَّ العدالة في الإسلام تشمل العدالة الاجتماعية، كما تشمل العدالة القانونية، والعدالة الاجتماعيَّة في الإسلام مُؤدَّاها أن يمكَّن كل عامل من أن يعمل، وأن يكون جزاء العمل على قدره، وأن يمكَّن كل حي من العيش الكريم، وأن تمكَّن كلُّ قوة إنسانية من أن تظهر، فلا تُطمَر كفايات ويبرز من ليسوا أَكْفَاء!

وقبل أن نخوضَ في تفصيل العدالة الاجتماعيَّة، نتكلم في موضوع الفرديَّة والجماعيَّة الذي يتحدَّث الناس الآن فيه، وموقف الإسلام منه.

لا شك أنَّ بعض الدول تتجه نحو تقوية الجماعة، وإدغام الفرد فيها، فليس للفرد من الحقوق إلا بمقدار ما تعطيه له الجماعة، وأنَّ ما تعطيه له الجماعة إنما يكون لتقويتها، فالمقصد الأول هو الجماعة، والفرد فيها قوة جزئيَّة لها، تُقَوَّى لأجل الجماعة، وتندغم لأجل الجماعة، وبذلك تندغم حقوق الآحاد، وعليهم الواجبات الكاملة.

وفي بعض آخر من دول العالم تَعتبر قوَّة الفرد هي الأساس للبناء الاجتماعي، فالجماعة القويَّة لا تتكوَّن إلا من لَبِنَات قوية، وعمل المجتمع الفاضل هو التأليف بين قوى الآحاد، ومنع التنافر، وتكون قوى الأفراد كالأرداف النهريَّة، والقنوات المائيَّة، تتضافر وتتجمع حتى يتكوَّن منها النهر الأعظم الذي يجري بأمرِ ربِّه.

وبين الفريقين من الدول من تُقارِب أحدَهما، وتُباعد الآخر، ومن تقارب الآخر وتباعد الأول، أي: من الدول من تتجه إلى الجماعيَّة من غير إهمال للفرد، ومنها من يتجه إلى الفرديَّة من غير تناسٍ للمصلحة الاجتماعية، أي: تقيد من حقوق الأفراد قليلاً أو كثيراً، ويكون للجماعة ما تمنعه من الفرد.

3 – وهنا يسأل القارئ، عن موقف الإسلام من الفريقين؟ فنقول: إنَّ الإسلام جاء لتكوين جماعة فاضلة يسودها الحق والفضيلة والأخلاق الكريمة، يعمل في ظلها الأفراد من غير أن يجاوز الفردُ حدودَه، ومن غير إهمال لحقوق الإنسان بوصف كونه إنساناً، ولكن البناء الاجتماعي لا يقوم على وصل آحاد الجماعة بقوَّة القهر والقانون، بل جعل وَصْلَ الجماعة روحياً ومَعْنوياً، ورحمةً ومودة، بحيث يصلون قلبياً وعملياً ما أمر الله تعالى به أن يوصل من خير، ويقطعون ما أمر الله تعالى به أن يقطع من شر، ومن اعتدى على حق الآحاد أو الجماعة فقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإنَّ القانون يتدخَّل لحمله على الحق، ومنع الظلم، والإسلام في سبيل ذلك اتجه إلى تنمية الشخصيَّة الإسلاميَّة الفاضلة بالعبادات التي تُطهِّر النفس، والأخلاق التي تزكو بها، وذلك لأنَّ الإسلام دين أولاً، وقانون ثانياً، فهو لإصلاح القلوب أولاً، وبذلك تتلاقى الآحاد وتتجه نحو بناء اجتماعي يقوم على المحبة والمودة، ومن عمل على هدم هذا البناء فقد وقع في المنهي عنه، وحقَّت عليه كلمة العقاب في الدنيا بالعقاب الدنيوي ينزل به، وفي الآخرة بالعذاب الأليم إن لم يتب إلى الله تعالى توبةً نصوحاً.

وقد عمل الإسلام على أن تكون الحقوق والواجبات قائمة في الجماعة على أساس الفضيلة والمبادئ الدينيَّة الحقَّة، وذلك بتكوين رأي عام فاضل، يهذِّب الآحاد بسلطان الدين، وبقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون الانسجام كاملاً بين حق الفرد وحق الجماعة، وكل يسير في طريقه، ويتلاقى الجميع على مائدة من الرحمن، بحيث لا يكون شطط ولا مجاوزة للحد، وإذا لم يردع سلطانُ الرأي العام، فإنَّ سلطان القضاء يدخل، ويتحقق قول بعض الأئمة: إنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن! وذلك في هذه الحدود المرسومة الواضحة.

4 – وبهذا يتبيَّن أنَّ الإسلام لم يفصل حقوق الفرد عن حقوق الجماعة، ولم يكن فيه السلطان الجماعي، أقوى من القوَّة الشخصية، ولا تَعتدي هذه على حقوق تلك، ومازج بينهما مزاجاً حكيماً، فالجماعة تتكوَّن من الأفراد الأقوياء، والأفراد لا يَعيشون إلا في ظلِّ جماعة تستمدُّ قوتها منهم، ويَستمدون الحماية منها، ويصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ) [أخرجه أحمد، وغيره]، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونرى من هذا أنَّ الإسلام يَنظر إلى العلاقات الروحيَّة المعنويَّة، ويجعلها الأساس للبناء الاجتماعي، ولا يجعل للعقاب الدنيوي مَكاناً، إلا إذا كان الاعتداء على الجماعة، فعندئذ يدخل القانون الرادع الذي يَزجر المعتدي، ويمنعه من الاستمرار في اعتدائه.

ولكن الناس في العصر الحاضر لا يتعرَّضون كثيراً للعلاقات المعنويَّة ويَبْنون الأمور على العلاقات الماديَّة، ذلك أن الماديَّة هي المتحكِّمة المسيطرة، والغالبة على عقول العلماء في تفكيرهم، ولأنَّ المفكرين في العلاقات الاجتماعيَّة لا يبنوها الآن على سلطان الروح، بل يبنوها على الحقوق والواجبات الماديَّة، وإن اتجهوا إلى المعنويات فإنَّهم يتَّجهون إلى العصبيَّة والوطنيَّة، فهم يُحَكِّمون المادَّة، أو يحكمون الوطنيَّة أو العصبيَّة، وهذه أيضاً أقرب إلى الماديات منها إلى المعنويات.

ولذلك وجب علينا أن ننظر إلى المسألة من الناحية الماديَّة أيضاً، ولكن من غير أن ننسى المعنويَّة، وإلا كنا قد جرَّدنا الإسلام من معناه، ومن حقيقته ومرماه، فهو وحي السماء جاء لتطهير قلوب الآحاد، وتطهير الجماعات من الآثام الظاهرة، والانحرافات الفاسدة، وتنظيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان مهما تختلف بيئته وجنسيته وعنصره.

5 – وعندما تتَّجِه في العدالة الاجتماعيَّة إلى المادِّيَّات، نجد الإسلام قد أمر المؤمن بطلب المال والقوة، فقد قال عليه السلام: (من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة وسعياً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي الله يوم القيامة، ووجهه مثل القمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلاً، مكاثراً مفاخراً مرائياً، لقي الله وهو عليه غضبان) [قال العراقي: رواه أبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث أبي هريرة بسند ضعيف]. 

ويقول عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ) [أخرجه مسلم]. وروى الإمام أحمد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ)، [قال العراقي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح].

ونرى من هذا أنَّ الإسلام حثَّ على طلب المال، ولكن يُلاحظ في الأحاديث التي رويناها معنيان، أولهما: أنَّ الجانب المعنوي واضح عند طلب المال، فهو يَطلب لا للرياء ولا للمكاثرة والمفاخرة، ولا يطلب لذاته، ولكن يطلب لأداء ما تَعَلَّق به من حقوق، وما فرض عليه من واجبات، وثانيهما: أنَّه لابدَّ أن يقرن بالمال التقوى، فهو من غير التقوى يكون تحت سلطان الشيطان، وبدل أن يكون عنصراً بانياً، يكون عنصراً مخرِّباً.

6 – وإذا كان الإسلام يحثُّ على طلب المال، فلابد أن نتكلَّم في عنصرين: 

الأول: هل يقرُّ الإسلام أن يكون هناك فقير وغني؟

الثاني: وأن تكون هناك طبقة تسمى طبقة الأغنياء وأخرى تسمى طبقة الفقراء، وأنَّه لا يذوب الفرق بين هاتين الطبقتين أبداً؟

أما بالنسبة للعنصر الأول، وهو عنصر الغنى والفقر، فنقرِّر أنَّ الإسلام أقرَّ ما تُقِرُّه الفطرة، وهو أنَّ الناس مُتفاوتون من حيث مقدار ما يدَّخرون من مال، وما يسخِّرونه منه في وسائل الإنتاج، والثمرات التي تأتي، فمن الناس من لا يَملك إلا ما يَكفي حاجاتِه الأصليَّة، ومنهم من له فضلٌ زائدٌ عما يحتاج إليه يُسَخَّر في تنمية ثروته الخاصَّة، وتنمية الثروة العامَّة لبلاده، وبذلك يتقرَّر أنَّ في الناس غنياً، وأنَّ في الناس فقيراً، قوياً عاملاً، أو عَاجزاً مُعَاناً، ولذا نقرِّر أنَّ تفاوت الناس غنىً وفقراً حقيقة ثابتة؛ لأنَّ القوى مُتفاوتة، وثمرات الأعمال كإنتاج الزرع والشجر تكون على قدر الطاقة المنتجة، وعلى فرض أنَّ القوى قد تتحد، فإنَّ ما تجري به المقادير تختلف، فَذَانِك رجلان لهما قِطَعٌ من الأرض مُتجاوِرات، قد سَقَياها بماء واحد، وبذراها ببذر واحد، وسمَّداها بسمادٍ واحد، وأحاطاها بعناية واحدة، ومع ذلك يُنتج أحدهما أكثر مما ينتج الآخر!

إما لآفة استمكنت من زرعِ أحدهما مع استخدام كل وسائل المقاومة، ولم تستمكن من زرع الآخر، أو أنَّ ريحاً عاصفةً أصابت ثمرَ هذا، ولم تصب ثمر ذاك! ولا شك أنَّ النتيجة أن يتفاوت مقدار ما يدرُّ زرع هذا عما يدرُّ زرع ذاك، وبذلك يتفاوت فاضل المال عند أحدهما عن الآخر.

فمحو الغني والفقير أمر ضدُّ الفطرة، ولا يوجد في أي مجتمع، ولا يُعارض هذا ما يدعو إليه الاقتصاديون من تذويب ما بين الطبقات؛ لأنَّ هذا التذويب إزالة للفوارق الاجتماعيَّة بحيث تُهيَّأ الفرص لكلِّ قوة من أن تظهر وتعمل، فلا يكون ابن العامل عاملاً دائماً، بل يجوز أن يكون مُهندساً إن مَكَّنته مواهبُه من ذلك، ولا يكون ابن الزارع الأجير أو المستأجر الذي لا يملك شيئاً كأبيه دائماً، بل يُمَكَّن له حتى يَصير على حسب ما تؤدِّي إليه مواهبه.

7 – وبالنسبة للطبقات نُقرِّر أنَّه ليس في الإسلام طبقات قط، فإذا كان قد اعترف بحقيقة الغنى والفقر، فهو لا يقرُّ أنَّ هناك طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، بل ليس في الإسلام طبقة من أي نوع كانت الطبقيَّة، ليس فيه طبقة أشراف أنسباء، وطبقة ضعفاء، وليس فيه طبقة للحاكمين وأخرى للمحكومين، وقد روينا من قبل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) [أخرجه أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وأبو داود].

ولكن وجد من ادَّعى أنَّ الإسلامَ يَعتبر الناس بالغنى والفقر طبقات، ليكون من الناس عاملون مسخَّرون وآخرون ذوو مال يُسخِّرون غيرَهم، ويأخذ ذلك من قوله تعالى: [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {الزُّخرف:32}. 

فيقولون: إنَّ ظاهر الآية أنَّ الناس درجات بالغنى والفقر، وليتخذ الأغنياء الفقراء عمالاً مُسخَّرين! وذلك تفسير لا يَتَّفق مع الحقائق الإسلاميَّة، ولا مع النص في ظاهره، ولا فيما سبقه من آيات، ولا ما لحقه منها.

أما مخالفة هذا التفسير للحقائق الإسلاميَّة؛ فلأنَّ الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المبادئ المقرَّرة الثابتة التي أجمع عليها الفقهاء أنَّ الناس سواسية، وأنَّ الناس جميعاً فقراء إلى الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] {فاطر:15}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس سواسية كأسنان المشط) [لم أجده، وعزاه صاحب كشف الخفاء إلى الديلمي]. 

وطائفة المساكين عند الله أقرب من طائفة الأغنياء، وقد تمنَّى عليه السلام في دعائه أن يُحشر في زمرة المساكين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) [قال العراقي: أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحَّحه من حديث أبي سعيد، والترمذي من حديث عائشة، وقال: غريب]، والنبي صلى الله عليه وسلم حبيب الله تعالى، ذو المقام الأعلى، كان من الفقراء، وكذلك كل الأنبياء، فكيف يكون الفقير أدنى مرتبة من الغني!

وإذا عُلِم سبب نزول هذه الآية يتبين بطلان قول من يدَّعي أنها تُفيد الطبقيَّة بسبب الغنى، ذلك أنَّ رجالاً من أغنياء قريش أنكروا نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم لفقره، وقالوا كما حكى عنهم القرآن: [وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] {الزُّخرف:31}، فردَّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا] {الزُّخرف:32}.

ولا شك أنَّنا لو فسَّرنا كلمة (درجات) بالطبقات بين الغني والفقير، لكان اعتراض هؤلاء في موضعه؛ لأنَّهم طلبوا أن تكون درجة النبوَّة تابعة لدرجة الغنى، ولا يكون في النص القرآني الكريم على تفسيرهم ردٌّ، بل يكون فيه تسليم، وما هكذا يكون فهم النصوص، إنَّما الرد يكون إذا فُصِلت رفعة الدرجات عن الغنى والفقر، ويكون معنى النص الكريم: نحنُ قسمنا بين الناس معيشتَهم في الحياة الدنيا، فكان منهم الغني والفقير، والموسَّع عليه في رزقه، والمقتر عليه، ولكن رفعنا بعضهم فوق بعض درجات بالتقوى والتقرُّب إلى الله تعالى، وبذلك تكون رفعة الدرجات عند الله تعالى، وليست الطبقات في الدنيا، ويكون قوله: [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا] {الزُّخرف:32} المراد فيه بالسُّخري هنا: الاستهزاء، ويكون المعنى: جعلنا رفعة الدرجات في الدنيا غير مُرتبطة بالغنى والفقر، ليكون المآلُ أن يتَّخذ الأغنياء - الذين حُرموا من نعمة الإيمان، ورزقوا المال - أولئك الفقراء الذين أنعمَ الله عليهم بالإيمان موضعَ استهزاء وسخرية، فيقولوا مُتهكِّمين مُستهزئين أهؤلاء مَنَّ اللهُ عليهم من بيننا؟ وقد كان المشركون يسخرون فعلاً من المؤمنين، ويستضحكون منهم لأنهم يَسْتكثرون عليهم أن يكونوا أكبرَ منهم، وهم من أهل القوَّة بالمال والولد.

ويزكي هذا المعنى، بل يُؤكِّده: 

أولاً: الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ] {الزُّخرف:32}، أي: أهم يوزعون الرحمة كما يشتهون، فيجعلوا درجة التقوى تابعة للمال، ودرجة النبوَّة تابعة للثروة؟ كلا، بل هما مُنفصلان غير مُتلازمين، فقسمة المعيشة والرزق غير مُرتبطة برفعة الدرجات عند الله تعالى.

ويزكي هذا ثانياً: قوله تعالى بعد ذلك في السياق ذاته: [وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35) ]. {الزُّخرف}..

فهذا النصُّ يُفيد أنَّه لولا أنَّ الله تعالى سَنَّ سنَّةً واحدة لطلب الرزق والأخذ بالأسباب، لكان الغنى مختصاً بالكافرين، والفقر مختصاً بالمؤمنين، ليكون نعيمُ الدنيا لأولئك، ونعيم الآخرة لهؤلاء، ولكن سُنَّة الوجود أنَّ من جدَّ وَجَدَ، ومن اتخذ الأسباب وصل، فكان في كلا الفريقين غنى وفقر.

وثالثاً: أنَّ روح الآية وسياقها كما هي روح الإسلام، لا يمكن أن تجعل الغنى يرفع الغني درجات، وإلا كان المؤمنون الأولون مُسخَّرين لخدمة الأغنياء الكافرين، وذلك ما لا يُتصوَّر.

وقد ادَّعى الذين يَهْجرون معاني الإسلام، ويجعلون الناس طبقات بالغنى والفقر، أنَّ كلمة (سُخْرِي) لا تكون بمعنى الاستهزاء، إنما يعبَّر عن الاستهزاء بالسِّخْري، بكسر السين، وقد وجدنا القاموس المحيط يردُّ ذلك الزعم، فهو يُصرِّح بأنَّ الأصل في كلمة سُخرِي (بضم السين) أن تكون بمعنى الاستهزاء، وقد تطلق بمعنى التسخير، وأنَّ الأصل في كلمة سِخري (بكسر السين) أن تكون بمعنى التسخير وقد يُراد بها الاستهزاء.

ولا شك أنَّ هذا يفيدُ أنَّ المادَّة واحدة، وهما يُطلقان على المعنيين.

8 – هذه معاني الإسلام، تُسوِّي بين الناس، فلا تفرِقة بالغنى والفقر، ولا باللون، ولا بالجنس، ولا بالإقليم، ولا بالنسب، بل الكلُّ أمامَ الله تعالى سواء، وهذا أساس العدالة الاجتماعيَّة، والله بكل شيء عليم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد الثامن، السنة السادسة عشرة، 1382-1962).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين