مقاصد الإسلام -4-

 

1 – ذكرنا في المقالات السابقة ما ميَّز الله تعالى به الإنسان على سائر الحيوان، وقد رفعه سبحانه إلى رتبة أعلى من الملائكة، إن استقام على المنهاج الذي رفعه الله سبحانه وتعالى.

ولقد أمر الملائكة أن يسجدوا له لبيان منزلته بين خلقه، وبيان ما خصَّه به من خواص ليست في غيره، فإذا كان الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون بمقتضى تكوينهم، وأنَّه لا يُتصوَّر منهم معصية، بل هم خالصون للخير، فالإنسانُ إن أطاع فهو مُريد بطبعه، يسلكُ سبيلَ الهداية باختياره، وقد خلق الله تعالى فيه الاستعداد للخير والشر، وأيهما أراد فإنَّه محاسب عليه إن فعل، ولذا قال الله تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}. وقال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) ] {الشمس}.

وإنَّه بهذه الإرادة الحرَّة وبهذا الاختيار الذي لا يَشُوبه قَسْرٌ ولا إكراه، يعلو الإنسان على كل الخلق إذا فعل الخير، وخلَّص نفسه من شوائب الشر، فإنَّ ذلك لا يكون إلا بجهاد، كما أشرنا من قبل وفي ذلك ثوابه، ويتردَّى من علياء الإنسانيَّة إذا اختار الشر، فيكون عقابه، ولذلك كان التكليف، وهو بذاته تشريف لمعاني الإنسانيَّة التي استكنَّت في أطواء نفسه، ولم يشرِّف الله سبحانه وتعالى من خلقه في هذه الأرض بهذا التكليف إلا الإنسان.

وقد كان هذا التكليف لإبراز المعاني الإنسانيَّة العالية، وجاءت الشرائع السماويَّة كلها لإعلاء شأن الإنسان، وإبرازه في أكملِ صورة، ودَعَت إلى مُقاومة نوازع الشر، وجاءت من بعد ذلك شريعة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وقد علت المدارك الإنسانيَّة، واتجه الإنسان بجماعاته المختلفة إلى دراسة الكون وما فيه، ومعرفة أسراره وخواصه، وسار في طريق تسخيره لخيره إن أراد الخير واصطفاه، ولذلك جاءت شريعة الإسلام كاملة عامَّة، لا تختصُّ بجيل دون جيل، بل هي للأجيال والأجناس، والألوان جميعاً، وكأنَّها بالنسبة للشرائع السابقة كالقمر في ليلة تَمِّه وقد صار بدراً! وما الشرائع من قبله إلا كالأَهِلَّة تتزايد ليلةً بعد ليلة حتى تمهد للبدر فيكون.

2 – ولذلك كان تنظيمها للجماعة هو الاتجاه إلى الكمال في أقصى درجاته، فكانت فيها أصول الفضائل الإنسانيَّة الفرديَّة والاجتماعيَّة، وأقامت المجتمعات على أسس فاضلة، ودعائم عالية، تُعلي الإنسان ليَنْهدَ (أي: يرتفع) إلى مَرَاقي الكمال الإنساني الذي جعل للإنسانيَّة الحق في أن تسجد لها الأحياء العالية بأمر الله رب العالمين!

ولذلك اتجه الإسلام في تكوين الجماعة إلى أهداف توجه الإنسانيَّة نحو الكمال، وكانت الأوامر الإلهيَّة تتجه في أول أمرها إلى أن يكون المجتمع فاضلاً لا يَظهر فيه إلا الخير، ويختفي منه كل الشر، فلا تقعُ أعين الناس إلا على ما هو كامل في ذاته، ولا تسمع الآذان إلا ما هو خير، ولا يَقرأ المؤمن إلا ما يُغذِّي روحَه أو عقله.

وهكذا يكون كل المجتمع خيراً في ظاهره، فإنَّ الصور والمظاهر مهذب للمرء أكمل تهذيب، وفرق ما بين المجتمع الخير والمجتمع الشر، هو أنَّ مجتمع الخير لا يرى فيه إلا الخير، ومجتمع الشر لا يظهر فيه إلا الشر، وإن كان عدد الأشرار قليلاً في ذاته، فإذا رأيتَ مجتمعاً تختفي فيه الفضيلة ولا تظهر على سَطْحه، فاعلم أنَّه مجتمع غير فاضل، ولو كان عددُ الفضلاء فيه كثيراً؛ لأنَّ الفضيلة مع كثرتهم لا تسيطر ولا تحكم! 

وإن رأيت مجتمعاً لا يظهر على سطحه إلا الخير، ويختفي الشر وينزوي انزواء، فاعلم أنَّه مجتمع فاضل، وإن كثر عدد الأشرار فيه؛ لأنَّ مآلهم أو أكثرهم إلى التهذيب، فإنَّ الرذيلة وإن كانت لا تعيش إلا في الظلام تأخذ من النور ذيوعاً وانتشاراً، وإن استمرت في الظلام، فإنَّها لا تمتد ولا تزيد ولا تنمو!

3 – وفي سبيل إيجاد مجتمع لا تظهر فيه إلا الفضيلة رافعةً رأسها، دعا الإسلام إلى صفة الحياء، فإنَّها الصفة التي تجعلُ المؤمن لا يظهر عليه إلا الخير، فتختفي فيه نوازع الشر، وقد يكون المآل إخفات صوتها في النفس، فإنَّ من تعود الظهور بالفضيلة يخبو في نفسه صوت الرذيلة، ولا يَزال المؤمن يُرَوِّض نفسه على الظهور بالخير، حتى يَصير خيراً يُعَدُّ من الأخيار، ومن لا حياءَ عنده لا يُرجى منه الخير! ولذا ورد في بعض الآثار: من لا حياءَ فيه لا خير فيه! وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الحياء فقال: (الحياء خير كله) [أخرجه مسلم]، واعتبره خلق الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء) [أخرجه مالك].

وليس معنى ذلك أنَّ الأديان السابقة لم تدعُ إلى الحياء، بل المعنى: أنَّ الإسلام اختصَّ بأن جعله مظهر الجماعة الإنسانيَّة، وعنوانها والسائد فيها، لأنَّ الإنسان قد بلغ في عصر النبوَّة المحمديَّة مبلغَ من يَسير في المعارف والعلوم نحو الكمال، فحثَّه الإسلام على العلم، وحثَّه على الحياء، لأنَّ الإسلام يتَّجه إلى تكوين جماعات مُتآلفة من كلِّ الأجناس والألوان، ويجب أن يكون للحياء سُلطانه لتنظيم المظهر في هذه الجماعات المتغايرة المتآلفة المتلاقية على المحبَّة ورضوان الله العلي الكبير.

ولأنَّ الحياء كان له فضله في الديانات السماوية كلها، قال عليه السلام: (إنَّ مما توارثه الناس من كلام النبوَّة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت)! [رواه أحمد وابن ماجه، وأبو داود]، وإنَّ هذا النص الكريم يومئ إلى أنَّ الفرق بين المؤمن الذي جمَّله الله تعالى بالحياء، ومن حرمه الله تعالى من جلال هذه الصفة، هو أنَّ من منحه الله تعالى الحياء يُقيِّد نفسه، ويضبطها، ويكبحُ جِماحَها، فلا يظهر منها إلا الخير، وهذا أول طريق السيطرة على الأهواء والشهوات، وأما الشرير فهو مُنطلق الفعل والقول لا يضبطه ضابط، ولا يُسيطر على عمله أو قوله مُسيطر من خُلُق، أو مظهر من مظاهر الكمال الإنساني.

وإنَّ الحياء يجعل صاحبه لائقاً يَألف ويُؤْلف، وأساس البناء الاجتماعي التآلف بين أجزائه، ليكون قوياً محكماً مُوثقاً، وإنَّ الحياء هو عنصر اللياقة في الإنسان، فليس بلائق من فقد الحياء، واللياقة عنصر تَهذيبي في الجماعات الفاضلة.

4 – وإنَّه في سبيل تكوين مجتمع فاضل، لا يَظهر فيه إلا الخير، نَهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إعلان الجرائم، بل أوجب سترها، حتى لا يكون كشفها الشائه مُشوِّهاً لجمال المجتمع الفاضل!

ولأنَّ إعلانها وظهورها تحريض عليها، فإنَّها في جملة أحوالها اندفاع في الشهوات، وخروج عن جادَّة الاعتدال، فالنفوس غير المستقرَّة، وغير المنضبطة بضوابط الفضيلة، إذا رأتها تسير عَارية مكشوفة، اندفعت إلى المحاكاة، وكان منها الشر من غير تردُّد، والفساد من غير تحرُّز!

وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن إعلان الجرائم: (أيها الناس من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات، فاستتر، فهو في سِتْر الله، ومن أبدى صفحته، أقمنا عليه الحد) [أخرجه الحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي]، وعن سالم بن عبد الله، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي مُعافَى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجلُ بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه"! [أخرجه البخاري ومسلم].

وإذا كان الحياء صفةَ الآحاد ليتعاونوا فيكونوا جماعة فاضلة فستر الجرائم بالنسبة للجماعات كالحياء بالنسبة للآحاد، بل إنَّ حياء الجماعة ألا يظهر الشر فيها، وأن تختفي الرذيلة ولا تُكشف، ومثل الجماعة التي تسمح بالإعلان عن الجرائم، كمثل الشخص الذي يُعلن جرائم نفسه من غير أي تحفُّظ أو تصون! 

ولقد ثبت بالتجارب العلميَّة والقضائيَّة أنَّ إعلان جرائم السطو، وبيان تفصيل وقوعها، جعل بعض الشباب ينحرفُ إليها ويحاكيها، ويَفتخر بأنَّه يعمل ما يعمله رجال العصابات في أمريكا، أو كبار المجرمين في أوروبا!

5- وفي سبيل تكوين المجتمع الفاضل، والرأي العام المكتمل، أوجب الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا قال تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.

والإسلام يَعُدُّ خاصَّة الأمَّة الإسلامية التناهي عن المنكر، والتواصي بالحق، ويعتبر ذلك مناط الخير، وسبب العلو، ولذا قال سبحانه وتعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.

وما سار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمَّة إلا كانت لا يَظهر فيها إلا الخير والفضل، وتكون فيها رأي عام مهذب لائم تنزوي فيه الرذائل، وتظهر فيه الفضائل!، وكانت الأمَّة الإسلاميَّة في ذروة من القوة والعِزَّة أيام كان الخليفة يَسير في الطرقات فيسمع من الناس كلمة (اتق الله)، وكان سليمة البناء يوم أن كان حكامها يستمعون إلى لوم اللائمين، ونقد الناقدين! ومن وقت أن اختفت كلمة الحق، وظهرت كلمة الباطل، فسدت الأمَّة، وضاع الحق فيها، وتواصى الناس بالباطل بدل أن يتواصلوا بالحق، وتعاونوا على الإثم والعدوان، بدل أن يتعاونوا على البر والتقوى!

ويُروى في هذا المقام أنَّ رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتَّق الله، فقال بعض الذين نبت في قلوبهم حبُّ المداهنة: أو تقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فغضب رجلُ الإسلام العبقري، وقال: (ألا فلتقولوها، لا خيرَ فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها)! 

وكان بذلك الإسلام عزيزاً عندما كان الحق يُسكت المداهنين، ويُنطق المؤمنين، ولما فسد الأمر، وصارت المداهنة في القول هي السائدة عند المتصلين بالأمراء والولاة، اختفت كلمة الحق، وظهرت كلمة الباطل!

ووازن بين كلام الفاروق العظيم، وكلام عبد الملك بن مروان، فقد صاح في الناس يقول: (من قال لي اتق الله قطعتُ عنقَه) وأخذت هذه الكلمة تَسري في الحكام مسرى الظلام في النور! وصارت هي القاعدة، وكلمة الحق هي الاستثناء! حتى صرنا نسمع آناً بعد آن من يَرمي الناطق بالحق بالشذوذ والخروج! 

بل وجدنا من المنافقين من يتطاولون على الحقائق، فيرمون الناطق بالحق بالنفاق الذي مَرَدُوا عليه! وصرنا نسمع من يقول عن ملك أو نحوه: (ذاته مصونة لا تُمَس)!.

ولقد تنبَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك الزمان، واعتبر من أعظمِ الشهداء من نطق بكلمة الحق أمام المبطلين إذا نزل به الأذى، ولقد قال في ذلك صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله)! [[قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ضعف].

هذا وإنَّ اللعنة تَنزل بالأمم التي لا تتناهى عن المنكر، ولو كان فيها أخيار، ولقد قال الله سبحانه وتعالى: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)] {المائدة}.

ولقد اعتبر الله سبحانه وتعالى الإنسانيَّة كلها في خسران يؤدي إلى شُيوع الفساد في الأرض بَرِّها وبحرها، إذا لم تتواصَ بالحق، والصبر على الأذى في سبيله، ولذا قال سبحانه: [وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ]. {العصر}. وذكر الصبر هنا للإشارة إلى ضرورة الاحتمال في سبيل الحق والدعوة إليه.

وقد أنذرَ النبي صلى الله عليه وسلم الجماعات بالانحلال وذهاب القوة والعزَّة، إذا لم يكن فيها أمر بمعروف ونهي عن منكر، وقال في ذلك صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم) [رواه أبو داود وغيره].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، من السنة السادسة عشرة، 1381-1962).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين