مقارنة بين ثورتي 1919 و2011 في مصر

 

تمر علينا بعد أيام ذكرى ثورة مصر التي بدأت في 25 يناير 2011 وانتهت بسقوط حسني مبارك في 11-2-2011، من المفيد أن نقارنها بثورة شعبية مثلها حدثت في مطلع القرن العشرين في مصر، وهي ثورة 1919، والتي وقعت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي قادها سعد زغلول، فماذا نجد؟

إن أول أمر نجده هو أن ثورة 1919 نجحت في انجاز بعض اهدافها، وأهمها: قيام نظام ديمقراطي أنتج دستورا عام 1923، تحددت فيه صلاحيات مختلف الجهات الحاكمة من ملك ورئيس وزراء ووزراء، كما أقر وجود برلمان يتشكل أعضاؤه من خلال انتخابات يصوت فيها عموم الشعب المصري، ويتنافس على مقاعده عدة أحزاب، أبرزها حزب الوفد برئاسة سعد زغلول، كما اقر حرية الصحافة وحرية الرأي وحرية التظاهر إلخ ...

هذا ما حققته ثورة 1919، في حين نجد -في المقابل- أن ثورة 25 يناير 2011 فشلت في تحقيق هدف قيام نظام ديمقراطي، فبعد أن أطاحت بحسني مبارك، وجاء مرسي رئيسا منتخبا في عام 2012 انقلب عليه عبد الفتاح السيسي بتاريخ 3-7-2013 وأطاح به، وأعاد حكم الجيش والعسكر لمصر مرة اخرى، فلماذا نجح في ذلك؟

ليس من شك بأن هناك عدة عوامل وراء نجاح ثورة 1919 وفشل ثورة 2011، منها: السياسي، والتنظيمي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي إلخ ...، لكن اعتقد أن العامل الأهم في نجاح ثورة عام 1919 وفشل ثورة 2011 هو العامل الثقافي، وهو ما سأتحدث عنه في السطور القادمة.

لقد جاءت ثورة 1919 حصيلة بناء ثقافي بدأه رفاعة الطهطاوي الذي ذهب مرشدا دينيا مع أول دفعة عسكرية أرسلها محمد علي باشا إلى باريس عام 1823، والذي كتب بعد عودته من تلك الرحلة عدة كتب أبرزها: "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" و"المرشد الأمين في تربية البنات والبنين" ثم أنشأ داراً للترجمة في القاهرة بعد عودته من هناك.

وأرست دعائم البناء الثقافي مدرسة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، واستكمل بناءه تلاميذ محمد عبده من بعده من أمثال: قاسم أمين وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد ورشيد رضا ومصطفى عبد الرازق إلخ....، ولقد كانت المادة الثقافية التي أفرزتها مدرسة محمد عبده وتلاميذه الركيزة الأساسية التي أطلقت ثورة 1919، وشكلت الفضاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفني والتربوي لها.

لقد مهدت كثير من المفاهيم التي أرستها مدرسة محمد عبده -بغض النظر عن موقفنا من هذه المفاهيم والآراء وحُكمنا عليها- لثورة 1919 من مثل: محاربة التواكل والدعوة إلى التوكل، والموقف الإيجابي من القضاء والقدر، ومحاربة أباطيل وخرافات وشعوذات التصوف، والدعوة إلى إعمال العقل، والإشادة بدور المدنية الإسلامية في مواجهة ظلامية العصور الوسطى في أوروبا المسيحية وتحريك العمل بمقاصد الشريعة في الأصول والأحكام من خلال طباعة الموافقات للشاطبي، وإبراز علم المقاصد، ورفض التهم الموجهة إلى حضارتنا الإسلامية بأنها حضارة نقل من حضارتي الرومان واليونان، وعلى العكس الاعتزاز بها والتأكيد على أنها نقلت وأبدعت في كل العلوم ومنها: الطب، والرياضيات، والقرآن، والفلك، والأصول، والصيدلة، والفيزياء، والكيمياء إلخ ...، وجاء كتاب مصطفى عبد الرازق "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" في إبراز ابتكار علم الأصول في كتاب "الرسالة" للشافعي، وتوضيح اختصاص أمتنا بهذا العلم، وعدم وجوده عند غيرها.

لقد بقي ذلك الفضاء الثقافي الذي انتجته مدرسة محمد عبده هو الهواء الذي تتنفسه جماهير ثورة 2011، لذلك لم تنجح لأنها تغذت بمادة ثقافية قديمة، وكانت بحاجة إلى مادة ثقافية جديدة تعالج مشاكل مستجدة تولدت بعد الحربين العالميتين، فهل يعني ذلك أن الأمة لم تنتج مادة ثقافية جديدة بين ثورتي 1919 و2011؟ بلى أنتجت وعالجت كل الواقع الجديد ومشاكله، لكن لم يؤخذ بها، ونحن سنستعرض المادة الثقافية عند ثلاثة كتاب وهم سيد قطب، محمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن وسنبين الجديد في هذه المادة الثقافية ثم سنبين الأسباب التي كانت وراء عدم الاستفادة منها في تشخيص الواقع ومعالجته.

أولا: سيد قطب:

لقد جاءت كتابات سيد قطب في تفسيره للقرآن الكريم والذي سماه "في ظلال القرآن"، ايجابية وفاعلة ومؤثرة في مجال توضيح دور العقيدة في البناء النفسي للمسلم، وفي مجال الثورة على الظلم، وفي مجال توضيح أنواع الشرك التي تعطل فاعلية المسلم، وفي مجال توليد ثقة المسلم بأمته ودينه، وفي مجال إغناء قلب المسلم بتعظيم الله، وقد نقل تلك المعاني إلى كتب ألفها تحت عناوين محددة منها: "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" لكن جماهير الأمة لم تستفد من كتابات سيد قطب لسببين:

الأول: اتهامه بأن كتاباته توحي بتكفير المجتمع، وقد رد أخوه على تلك التهمة أنه لم يقصد بحال من الأحوال تكفير عموم المسلمين، وأن هذا جاء نتيجة فهم خاطئ لبعض نصوصه، وبعض عباراته الأدبية التي حُمِّلَت على غير ما قصد منها، وقد أكد ذلك بأن علينا أن ننظر إلى كتاباته بشكل متكامل، فعند ذلك سنجد أن هناك نصوصا كثيرة وقطعية الدلالة تنفي ذلك، فعلينا من أجل الحكم الدقيق عليه أن نحمل الملتبس من ألفاظه على المحكم والواضح والقطعي واليقيني من الألفاظ والمعاني، وإذا فعلنا ذلك فإن الالتباس سينتهي، وسنكون متأكدين بأن سيد قطب لم يقصد التكفير.

الثاني: وقوف بعض القيادات الإسلامية موقفاً معادياً لكتابات سيد قطب، ومنع الجماهير المرتبطة بها من قراءة أعمال سيد قطب وذلك خشية تأثرهم بها، وتوليد الثورة في نفوسهم، وتوجسهم من عدم القدرة على ضبطهم بعد ذلك.

ثانيا: الدكتور محمد عابد الجابري:

لقد أبدع الدكتور محمد عابد الجابري في بعض كتاباته عند تحليله للتراث وتقويمه له فيما يتعلق بنشأة أنظمة الثقافة المعرفية التي سادت تراثنا وهي: البيان، العرفان، البرهان، وكيفية تداخل هذه الأنظمة المعرفية، وضرورة تفكيكها، والاستفادة من هذا التفكيك في بناء عقل إيجابي واع فعال بعيد عن سلبيات الماضي بكل أنواعها.

ثالثا: الدكتور طه عبد الرحمن:

لقد أبدع الدكتور طه عبد الرحمن في نقد الحضارة الغربية، ووضح الحفرة التي وقعت فيها عندما فصلت الدين عن الدولة، وعندما استهدفت إنشاء أخلاق جديدة غير مرتبطة بالدين، وفشلها في ذلك، وجنايتها على البشرية، وقد وضح ذلك من خلال نقده لكبار فلاسفة الحضارة الغربية من أمثال: كانت، وهيجل، وديكارت، ونيتشة إلخ ...

وقد دعا من خلال هذا النقد إلى التمسك بالأخلاق الفردية والجماعية التي جاء بها الدين، والتي تعطي أفضل حيوية، ودافعية للفرد في حراكه الثوري، ولا يمكن أن تتولد من غير الدين.

والسؤال الآن: لمذا لم تستفد ثورة 2011 من تلك المواد الثقافية التي طرحها أولئك الكتاب وغيرهم لم آت على ذكرهم لضيق المقام؟

السبب في ذلك هو محدودية وعي القيادات وتدني ثقافتها، وقصور معلوماتها، هو الذي حال بينها وبين الاستفادة من تلك المواد الثقافية، والارتقاء بوعي جماهيرها، في حين أن ثورة 1919 كانت قياداتها أكثر وعيا، ويمكن أن نمثل على ذلك بسعد زغلول الذي قاد ثورة 1919 فقد كان تلميذا لمحمد عبده.

الخلاصة: لقد نجحت ثورة 1919 في إقامة نظام ديمقراطي في مطلع القرن العشرين، في حين أن ثورة 2011 فشلت في ذلك في مطلع القرن الحادي العشرين، وعند الفحص والتدقيق في سبب النجاح في الأولى والفشل في الثانية وجدنا ذلك في المادة الثقافية التي مهدت لثورة 1919، وكانت أساس نجاحها وهي أقوال وأفكار مدرسة محمد عبدة وتلاميذه من بعده، لكن ثورة 2011 استمرت جماهيرها تعيش وتتنفس أفكار وأقوال مدرسة محمد عبده، لذلك لم تنجح هذه الثورة، ثم بينا أن السبب، ليس الفقر والجدب في المادة الثقافية التي نتجت بعد الحرب العالمية الثانية، بل على العكس فهناك أعلام قدموا مواد ثقافية جديدة وعميقة في مجال العقيدة وإعادة الفاعلية النفسية للفرد كسيد قطب، وفي مجال فهم التراث وتفكيكه لمحمد عابد الجابري، وفي مجال فهم الحضارة الغربية، وتشريح أزمتها وكيفية الاستفادة منها، وبيبنا أن الذي حال دون الاستفادة من هؤلاء الأعلام وغيرهم هو: محدودية وعي قيادات ثورة 2011 بالمقارنة مع ثورة 1919.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين