مفهوم الهجرة

الهجرة ثورة على الظلم

الشيخ: مجد مكي
هذه خطبة قديمة ألقيت في جامع السلام بحلب 1/1/1398 الموافق1/كانون الأول/1978 وقد تكرَّم الأخ الكريم الأستاذ طارق قباوة بإحيائها وطباعتها، وطلب مني مراجعتها أثناء زيارتي للمكتب قادماً من الدوحة، وذلك ظهر يوم الأحد 8/محرم/1433، وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني، ويجعل هذه الكلمات من العلم الذي ينتفع به، وشكر الله للأخ الكريم طارق الذي أحيا ما اندرس من تلك الأوراق الكثيرة التي كتبتها بقلمي وألقيتها في خطب الجمعة على منابر مساجد حلب وغيرهاوأسأله سبحانه أن يردنا إلى بلادنا لنتابع سيرة الدعوة والعلم، وأن يبارك في أعمارنا وعلمنا وعملنا وذرياتنا، ويرزقنا السداد والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا.
* * *
وبعد: فما أجلَّ ذكريات الإسلام، وما أمجد أيام الله!!
إنها ترفع الحياة وتباركها، وتمنحها الصفاء والنور، وتُضْفي عليها الخير والبركة، وتُتيح للمسمين أن يعيشوا في جلال المُثُل العليا، والمبادئ الكريمة، كلما عانقوا هذه الذكريات وتنسَّموا شميمها العطر.
ومن بين هذه الذكريات الماجدة: ذكرى الهجرة النبوية الكريمة التي تتجدد أول المحرم من كل عام، فتملئ النفوس بالذكريات، وتفيض القلوب بالعبر.
الهجرة العامة:
لابد قبل دراسة هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن نبيِّن  معنى الهجرة العامة.
إنها انتقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وأصحابه من مكة بلد الشرك و الوثنية آنذاك إلى المدينة قبلة الحق والنور، فراراً بالعقيدة، وتمكيناً للدعوة، وبناءً للدولة.
وقد كان هذا النوع من الهجرة واجباً على كل مسلمٍ، ليسهمَ في بناء المجتمع الجديد، وتأسيس قاعدة الإسلام، وكان النكوص عنه أو التهاون فيه ضرباً من التخاذل لا يصح معه الإيمان.
وكما أن الجهاد في سبيل الله لا يُعفى منه إلا النساء والضعفاء والمرضى والأطفال، لعجزهم عن تحمُّل المشقة، فكذلك الهجرة لأنها ضَرْبٌ من الجهاد في سبيل الله.
وهذا النوع من الهجرة قد انتهى بعد فتح مكة، لأنَّ الله قد أتمَّ النعمة، وأتى بالفتح المبين.
وقد روى البخاري (2849) (أن مجاشع بن مسعودٍ جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: هذا مجالد يبايعك على الهجرة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا هجرة بعد الفتح ـ أي: بعد فتح مكة ـ ولكن أُبايعه على الإسلام).
الهجرة الدائمة:
إلى جوار الهجرة العامةِ، تُوجَدُ هجرةٌ أخرى، لم يُغلق بابها، ولن يُغلق إلى يوم الدين، لأنَّ بواعثها باقيةٌ دائمةٌ، ما دام في الدنيا كفرٌ وظلمٌ يضطر فيه الإنسانُ إلى الانتقال، لينجوَ بعقيدته وإيمانه...
هذه الهجرة الدائمة هي الانتقال من أي بلدٍ تضطهد فيه العقيدة، إلى أية بقعةٍ من أرض الله حمايةً للدين وحفاظاً على الإيمان... فحيثما جارت السلطة الحاكمة، وفسقت عن أمر ربّها، وتعقبت عباده المؤمنين تفتنهم في دينهم، وتصرفُهم عن عبادة ربهم، وتعطِّلُ أحكام الله، وتجترئ على حدوده، و لم تكن بالمؤمنين قدرةً على وضع حدٍّ لهذا الظلم، فإن الهجرة من تلك الأرض تصبح واجبةً وجوباً عينياً... والتقصير في تلك الهجرة يصبح ضرباً من الهوان، وما قيمةُ التشبُّث بوطن لا يرعى كرامةَ العقيدة، وما قيمةُ وطن تُسْتذلُّ فيه الكرامات وتُستباح الحُرُمات!
هذه الهجرة الدائمة هي التي يعنيها الحق تبارك وتعالى في قوله: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا] {النساء:97ـ99 }.
هذا الحوار الذي وَرَدَ في الآية الكريمة، بين ملائكة الموت وبين القاعدين عن الهجرة، المتهاونين فيها، الذين ترهَّلت جسومُهم، وفسدت نفوسُهم... فلم يغادروا البلد الظالم تشبثاً بالطين، وتعلقاً بالمنفعة، وتعللاً بالضعف، وتلمساً للمعاذير... أولئك ترفض الملائكة عُذْرهم، لأنهم إذا كانوا قد عجزوا عن الثورة على الأوضاع الفاسدة في مجتمعاتهم، فلا أقل من الاحتجاج على تلك الأوضاع الظالمة بالهجرة إلى أية بقعةٍ من أرضِ الله، وما أوسع أرضُ الله، وما أرحبها، وفيها متَّسع لكل مضطهدٍ ذليل!!
ويبدو من جوِّ الحوار أن هؤلاء القاعدين عن الهجرة، كانت لهم مصالح ماديةٌ تحبسهم، كتجارات أو قرابات أو علاقات، أو ما إلى ذلك.
 ومن خلال الحوار أيضاً تستشفُّ أن الجَوْرَ في مثل هذه الأحوال كان شديداً، وأنَّ الحكم كان عسوفاً، وأنَّ الإرهاب كان مسلَّطاً على المؤمنين، بدليل أن الملائكة لم تحاسب تلك الفئات على ترك الثورة، وإنما ناقشتهم في القعود عن الهجرة، و لو كانت الثورة ممكنةً لما كانت الهجرة بديلاً عنها بحال، لأنَّ المسلم مطالبٌ بتغيير الأوضاع الظالمة بالثورة عليها ما دامت فيه مَنَعَةٌ وبه قوةٌ، وما دام الإصلاح ممكناً!!
أما حين يبدو الإصلاحُ صعب المنال، فإن على المسلم ألا يقف موقفاً سلبياً بحال، بل عليه أن يعبِّر عن نقمته بالهجرة إلى أية بقعة من أرض الله يتمكن فيها من عبادة ربه.
حول الواقع التطبيقي للآية:
في هذه الآية الكريمة يتجلَّى جانب من جوانب الإعجاز القرآني، وهو جانب الصدق الواثق فيما تحدثت عنه هذه الآية، وما أخبرت به من أمورٍ مستقبلة... كانت وقت نزولها مُغيَّبةً عنا، محتجبةً عن آفاقنا... لا تستطيع الرؤية أن تلمَحها أو تتنبأ بها فكم هجرةً وقعت في أرض الله بعد هذه الآية؟ وكم طائفةً قعدت عن تلك الهجرات فحاسبتها ملائكة الموت وقت الاحتضار؟.
عندما نتتبَّع أحداث التاريخ نرى أن هجراتٍ كثيرةً قد حدثت على امتداد الزمن، كلُلها كانت في سبيل العقيدة... بحيث لا تستطيع حصرها ولا استيعابها، والآية الكريمة تبسط جناحها على كل تلك الهجرات.
أكانت الآية الشريفة ترصد بمنظار الغيب ضحايا العسف الشيوعي الذين هاموا على وجوههم فراراً بعقيدتهم، فساحُوا في أرض الله وشُردوا تحت كل نجم؟ ومن بقي منهم ساموه سوء العذاب!!
ففي الصين الشيوعية مثلاً أبادوا من المسلمين في ربع قرن ستةً وعشرين مليوناً، بمعدل مليون في العام، وما تزال عمليات القمع والإبادة ماضية، وقد وقع قريباً في القطاع الصيني من تركستان المسلمة ما يغطي على بشاعة التتار.
كذلك فعلت الشيوعية في يوغسلافيا بالمسلمين، أبادت منهم ألوفاً منذ أمد ليس بالبعيد.
وقد تضحِّي الشيوعية بالملايين من جميع الناس، بل بجيل كامل في سبيل استقرار نظامها، وفرض مبادئها لأنها شجرةٌ خبيئة لا ترتوي إلا بالدماء!!
أكانت الآية الكريم ترصد ضحايا الصليبية الحاقدة عندما تتمكَّن من المسلمين في أية بقعةٍ من أرض الله... هذا واقع تاريخي عاشه المسلمون ويعيشونه حتى يومهم هذا، يُستهدفون للقتل الجماعي والإبادة من القوى الكافرة، وتضطهد عقيدتهم في الدرجة الأولى... فلا يجدون أمامهم إلا الهجرة لتسلم عقيدتهم!! أو الذبح بلا رحمةٍ ولا هوادة!!
وكل هذه الهجرات التي وقعت بعد نزول آية الهجرة، فكأنَّما كانت الآية تخاطب بالوعيد والتوبيخ كل من تقعده شهواته عن الهجرة لينهض بواجبها... إنَّ هذه الآية تطارد الخوَّارين والقاعدين والمتشبثين بالطين ليفيئوا إلى ربهم!!
آية الهجرة تعالج الضعف البشري ترهيباً وترغيباً:
هذه الآية التي حللنا جانباً من معناها، تكافحُ العواملَ المثبِّطةَ، التي تقعد بالمؤمن عن الهجرة ترغيباً وترهيباً، لأنَّ النفس البشريَّة لا تنقاد إلا بهما، وقد مرَّ جانبُ الترهيب بذكر المشهدِ المثيرِ: مشهدِ الملائكة تستجوب القاعدين عن الهجرة وقت الوفاة. فأما عامل الترغيب فهو ما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:100} .
فانظروا كيف تماوجت في هذه الآية ألوان من الرغبات وترامت إلى أمد بعيد... بعيد!! إنَّ بعض النفوس تعتقد خطأً أنَّ ارتباطها بوطنٍ ما، هو الذي يجلب لها الخير، ويُربح التجارة، ويُؤْنس بالأهل والصحب والعشيرة!! فالآية تقول لهؤلاء: كلا. إن الرزق مضمون، والتجارةَ رابحة، والأنسَ بالصديق والأهل لا يرتبط بأرض ولا وطن، وستهيئ الهجرة لصاحبها يسراً بعد عسر، وسَعة من ضيق، فضلاً عن أنسه بربه وسعادته برحمته.
هذا الفيض الغامر من المعاني الرقيقة الشفيفة توحيه كلمتا ( مراغماً ـ وسعة ) لأن المراغم هو المنطلق الذي تتنفس فيه العقيدة المؤمنة، وتجد في رحابه أمنها واطمئنانها. والمراغم: أمكنةٌ كثيرة للهجرة، يجد فيها المهاجر خيراً يُرغم أنف عدوه، فهو يجد طرقاً يفارق فيها قومه مذلاً لهم ومهيناً.
وكلمة سَعَة: تُفيض على النفس الإنسانية الأمل والسكينة والثقة بفضل الله، فتعوض المؤمن المهاجر مالاً خيراً من ماله، وصحباً خيراً من صحبه، وأهلاً كراماً يلتقون معه على العقيدة، فهي سعة عامة في الأموال والأرزاق، والأماكن والأرواح والقلوب والمشاعر فهي سَعَة ماديَّة ومعنويَّة.
ثم يترامى موج الأماني العِذَاب في جوِّ الآية الكريمة، بحيث لا يدع رغبة للمهاجر المتوكل على ربه إلا حقَّقها له... وذلك أن وقت الموت محدَّد، والأعمار عند الله مقدرة، لا ترتبط بهجرة ولا إقامة، فعمرك هو عمرك سواءٌ في الحِلِّ أو التَّرحال... لكنَّ هذا الموت إنْ لَحِقَ المهاجر وهو في طريق الهجرة إلى ربه فقد ثبت له أجر الهجرة، وهو أجر لا يقدر بمال!! فهل يتصور ربح أسخى من هذا.
ثم تترامى المرغِّبات في الآية إلى بعيد، فلا تقتصر على ما مرَّ وهو في نفسه عظيم ولكنَّ الآية تعرِّض تعريضاً لطيفاً في خاتمة المطاف بغفران الذنب للمهاجر الذي مات في الطريق:[ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:96}.
إنَّ الهجرة بهذا التصوير صفقة رابحة يقبض فيها المهاجر أجرهُ منذ الخطوة الأولى، خطوة بروزه من بيته مهاجراً إلى ربه، هذا الأجر الكبير لا يظفر به إلا من سلك سبيل الهجرة، فإن قَعَدت به شهواته فلا أجر ولا غفران، بل هناك الملائكة تتعقبه حال الوفاة لتناقشه الحساب العسير على هذا التفريط، فشتان بين قاعد عن الهجرة وناهض بها!!
هجرة القلوب والضمائر:
هذه الهجرة هي الهجرة الباقية الخالدة إلى يوم الدين، وهي التي تحتِّمها ظروفٌ قاسيةٌ تُضْطهد فيها العقيدة، أو يُهان فيها المسلم، أو تُستباح حقوقه وكرامته، وهذه الهجرة باقية على امتداد الزمن، ويعبر عن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو داود(2120)والدارمي(2401):(لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).
وإنني أدعوكم ـ ونحن في ذكرى هجرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ـ إلى نوع من الهجرة هي بمثابة تجديد عهدٍ مع الله... إنها هجرةُ النفوس إلى الخير، والقلوب إلى الطهر، والضمائر إلى الحق.
 وإنَّ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تكن هجرة أبدان فحسب، بل كانت هجرة قلوب إلى النقاء والإخلاص والطهارة والحقِّ والعدلِ قبل أن تكون نُقلة ماديةً من أرض إلى أرض، وإن السبب في نجاح هجرتهم يرجع إلى أن قلوبهم قد هاجرت، ولقد صحبت تلك الهجرة المعنوية حركة الهجرة المادية إلى المدينة، وكانت دعامةً لها، وأساساً تستند إليه.
وإذا كانت الهجرة المألوفة رحلةً ماديَّةً على أرض الوجود، فإنَّ هذا النوع من الهجرة نُقلةً معنوية في عالم النفس، تتصاعد بالمؤمن إلى الملأ الأعلى، ليعيش حياةً كلها سُموٌ ونَقَاء!! وعندما ترتفع النفس المؤمنة فوق الشهوات والآثام، وتتحوَّل بالإيمان إلى طاقة بنَّاءة، فإنها بذلك تُحقِّق معنى الهجرة النفسية.
إنَّ هذه الهجرة انتقالٌ صاعدٌ من السيء إلى الحسن، ومن الشر إلى الخير، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الرجس إلى الطهر، ومن حياة الظلام والخطيئة إلى حياة النور والإيمان، بحيث تطل هذه النفس المؤمنة ثائرة على الهبوط والإسفاف، نازعةً إلى التَّسامي والعلاء، جانحةً إلى رفض الواقع المهين!!
هجرة الجوارح:
ولكلِّ عضوٌ من أعضاء المؤمن هجرة، فاليد مثلاً تهاجر من البطش والإيذاء إلى المعاونة والمصافحة، واللسان يتحوَّل من الغيبة، وتمزيق الأعراض، إلى القول السديد، والحديث المثمر المفيد، والعين تنتقل في هجرة معنوية، من الترصُّد لمناظر الفتنة والسوء، إلى رؤية الحق والخير والتطلُّع في أسرار الكون والحياة، والقلبُ يهجر سوءات الحقدِ والحسد والأَثرة إلى حَسَنات الخير والمودة والإيثار... وهكذا للقلب هجرة، وللنفس هجرة، وللعين هجرة، ولكل عضوٍ هجرة، ينتقل فيها المؤمن من حالٍ إلى حال، وليس من مكانٍ إلى مكان، وإلى هذه الهجرة الكريمة الخالدة يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه البخاري (9) وأبو داود(2122)، والنسائي(4910): (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )، إنها الصيغة العملية للإيمان!!
فإذا رغبنا أن نكون دائماً مهاجرين، فلنكن ثائرين باستمرارٍ على الأوضاع السيِّئة، نازعينَ إلى الحقِّ والهدى، متطلِّعين إلى الأُفق الأسمى، وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه حياةً مهاجرةً، كانت دائماً في تَرَقٍّ صاعدٍ إلى الله، فإذا ألمَّ بأحدهم شيء ظلَّ قلقاً حزيناً حتى يُجدِّد إيمانه بتوبة نصوح.
التغيير يجب أن يبدأ من أنفسنا:
إنَّ واقع المسلمين الراهن واقعٌ سيئ، و الانهيار المستمر في حياتهم يهدِّد وجودهم، ولكن ينبغي أن لا نيأس، وأن تكون نظرتنا متَّزنة معتدلة، وإن الوفاء لذكرى الهجرة وقد كانت هجرة نفوس وضمائر، قبل أن تكون هجرة أبدانٍ وأشباحٍ يقتضينا أن نأخذ درساً نافعاً ننطلق به في رحاب الحياة، وهذا الدرس هو أن نعمل بسرعةٍ على إيقاف ذلك الانهيار في أنفسنا... وإنَّ هذا الدرس المستفاد ليطرح علينا سؤالاً هاماً!! هذا السؤال هو: أين يمكن أن يقف هذا الانهيار ويبدأ التَّحُّول في حياة الأُمة؟!
وجوابنا الحاسم: يجب أن يبدأ التَّحوُّلُ في أنفسنا بأن ننتقل من هذه الوهدة التي تردينا فيها، إلى حياةٍ إسلاميةٍ نظيفةٍ، فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام تحوَّل بنا مجتمعنا، وتحوَّل معنا المسلمون في كل مكان، وتحوَّل العالم كله بنا، ومن ثم يحدثُ التغيير الكبير في هذه الآفاق، وبذلك نكون أداةً كريمةً لهذا التغيير الرائد والعميق في العالم بأسره، كما أراد لنا ربُّ العزة والجلال وذلك حين يقول:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110}
وقوله جل شأنه:[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143}.
أما إذا لم يحدث ذلك التحول السلوكي والنفسي في حياتنا فإنه لا يمكن أن يحدث التحول في مجتمعاتنا ولا في أمتنا، ولا في العالم من حولنا، نعم لن يتغير وضعنا من جديد ولن يحدث التحول في حياتنا إلا يوم نصعدُ بأنفسنا، ونهاجر بقلوبنا إلى مستوى حَمَلة الرسالة الأوائل إيماناً وصدقاً وعلماً ووعياً، وجهاداً وبذلاً... يجب أن نُجسِّد الإيمان في حياتنا فما يجوز أن يصبح القرآن نظرية تدرس، بل يجب أن يتحوَّل فوراً إلى مبادئ تُغْرس...يجب أن نبدأ التحوُّل من أنفسنا ثم ننطلق منها إلى غيرنا، ولنقرأ في حفاوة وإجلال قول ربنا سبحانه:[ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11}. وقوله جل شأنه:[ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الأنفال:53} .
وهذا هو القانون العام الذي لا مُجامَلَة فيه ولا محاباة، فإن تصرُّف القدر في حياة البشر مبنيٌّ على التغيير الواقعي في قلوبهم ونفوسهم وسلوكهم وجميع أوضاعهم.
إنَّ الهجرة المعنويَّة في حياة المسلمين تجعلهم دائماً سادةَ أنفسهم و سادةَ الحياة وليسوا عبيداً إلا لله عزَّ وجل.
ولو أنهم عاشوا حياة مهاجرة إلى ربهم لما استعبدتهم الشهوات، ولما استذلتهم النظم، ولما تمكَّن منهم العالم الكافر يعدُهم ويمنِّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
فاللهم يا ربَّ الهجرة، ويا ربَّ محمد، ويا ربَّ المهاجرين، امنحنا قلوباً ونفوساً مهاجرةً إليك نتمكَّن بها من صنع حياتنا، ونتمكَّن بها من إحداث التحوُّل في أنفسنا وفي العالم من حولنا... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: أضواء على الهجرة للشيخ محمد توفيق السبع باختصار وتصرف ص25ـ81.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين