مفهوم السلام مقاربة إسلامية معاصرة

ما فتئ العالم المعاصر يدندن حول السلام، وسبل تحقيقه؛ فأسّس من أجل ذلك الهيئات وأقام المؤتمرات والندوات؛ ودبَّج الكتب والمطولات: حتى إذا جئنا على أرض الواقع رأينا سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه وجده أكاذيب بعضها فوق بعض.

ولكن هذا العالم تغافل عن حقائق أثبتها الواقع والتاريخ والمنطق والنص؛ وهي أن الدين الوحيد الذي سبق الجميع بإرساء قواعد السلام هو الإسلام؛ فبالإضافة إلى أن الاسمين مشتقان من جذر لغوي واحد؛ فقد وضعت شريعة الإسلام فقد وضعت شريعة الإسلام من القواعد والتشريعات ما يجعل العالم يعيش آمنا مطمئناً يأتيه رزقه رغدا من كل مكان، لكنه كفر برسالة ربه، بل واتَّهم دينه بالإرهاب فأذاقه الله ويلات الحروب والدمار.

وإزاء الافتئات على الإسلام في هذا المجال، كان لا بدَّ من وضع الأمور في نصابها، وذكر الحقائق البيّنات على أنَّ هذا الدين هو دين السلام، فحتى ما شرعه من جهاد وقتال فهو في حقيقته لإرساء السلام والأمن.

فكرة السلام من الأفكار التي شغلت الإنسان في العصر الحديث؛ ولا سيما الإنسان الأوروبي الذي شهدت مجتمعاته حروباً داخلية طاحنة انتهت بحربين كبيرتين كبدتا البشرية أكبر خسائر في تاريخ الحروب والصراعات منن نشأة الخليقة؛ هما الحرب العالمية الأولى والثانية: واللتان أودتا بأرواح ما يقرب من 200 مليون إنسان.

إن فكرة الحرب المقابلة لفكرة السلام تقوم بالأساس على مبدئية الصراع في العلاقات الدولية التي تتبناها الحضارة الغربية منن مطلع نهضتها الحديثة؛ التي دشن لها فلاسفة ومفكرو نهايات العصور الوسطى الأوروبية؛ وفيما يتعلق تحديداً بفلسفة العلاقات الدولية الغربية. فإنها تأثرت تأثراً كبيراً بفلسفة توماس هوبز (1679-1588م) ومقولاته في بناء الدولة والعلاقات الإنسانية الداخلية والخارجية وفلسفته الأخلاقية؛ وأهم مقولاتها أن الإنسان لا اجتماعى بطبعه؛ والإنسان ذئب أخيه الإنسان: وأن القوة والغدر فضيلتان في مجال العلاقات بين الدول؛ وأن الحرب بين الدول هي الأصل وأن الناس لا يمكنهم أن يتعاونوا كما يتعاون النمل والنحل؛ وأن العقد بين الناس لا يكون إلا بالسيف فالعهد بدون سيف ليس إلا كلمات(1).

كذلك -أيضاً- - تأثر الفكر الغربي بالفلسفة «الداروينية» التي لا ترى الإنسان إلا حيواناً؛ أي طين؛ لذلك ظهرت مفاهيم القوة والغلبة والقهر في مجال العلاقات الإنسانية الغربية: ثم جاء التبشير بنهاية العالم على يد فرانسيس فوكاياما (1989م)، ثم صدام الحضارات الممهد لمرحلة الاستعمار الغربي الثالث للعالم.

منطق الحروب الأوروبية

هذه التصورات والمقولات الموجزة التي تزخر بها كتابات الفلاسفة الغربيين المؤسسين للمدرسة الوضعية؛ تفسر لنا بوضوح منطق الحروب التي خاضتها أوروبا ضد بعضها بعضا أولاً مثل حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648م) وحروب أخرى؛ إلى أن انتقلت أوروبا بحروبها خارج القارة من خلال عصر الاستعمار الغربي للعالم؛ التي انطلقت من مفاهيم «حق القوة» وحق البقاء للأقوى»؛ وهو ما أدى فقط إلى شهود العالم في الفترة من عام 1945 - 1989م حوالي 138 حرباً أسفرت عن مقتل 23 مليونا من البشر(2).

ومن أقدم الكتابات في العصر الحديث حول فكرة السلام كتاب «مشروع للسلام الدائم» - 1795م لإيمانويل كانط؛ وقد ظهرت هذه الدعوة في نهاية القرن الثامن عشر بعد أن عانت أوروبا من ويلات الحروب الداخلية. وقد أكد كانط الويلات الكبيرة التي أصابت البشر جراء الحروب؛ ومن ثم طرح فكرته المتمثلة في دعوته حول إحلال سلام دائم بين الدول؛ وطرح هذا المشروع في صورة مواد/ بنود تضمنت عدة مواد تمهيدية لتحقيق سلام دائم بين الدول؛ من أهمها إقامة المعاهدات التي تؤطر لديمومة السلام بين الدول: واحترام سيادة الدول واستقلالها مهما كانت صغيرة الحجم: والدعوة إلى إلغاء الجيوش على مر الزمن وتوفير نفقاتها لتنمية الشعوب.

ودعا -أيضاً- إلى إقامة تحالفات بين الشعوب لضمان تآلفها وانسجامها وعدم قيام الحرب بينها وفي ضوء إحساس المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) -التي تأسست بفرض نشر السلام وتخفيف حدة الصراعات وتقليل فرص الحروب- بتعاظم خطر الحروب من ناحية؛ وقناعتها بأن التغيير الحقيقي لمفهومي الحرب والسلام هو السبيل الأكثر تأثيراً في تحقيق أهدافها التي أنشئت من أجلها؛ فاتجهت إلى الاهتمام بالتربية والتعليم كميدان مهم لمجالات عملها من أجل السلام؛ وانطلقت في هذا الاهتمام من منطلقين رئيسين:

الأول: ما يعانيه العالم من ويلات الحروب والصراعات، حيث «يبزغ العالم حالياً من أكثر القرون دموية وحروبا في التاريخ(3).

والثاني: منطلق تربوي يهدف إلى تغيير عقلية الإنسان المعاصر وتحويلها من عقلية تقبل الحرب كحل للصراعات إلى عقلية تتبنى خيار السلام والفرص المتاحة للوصول إليه، ويقوم هذا المنطلق على مقولة مفادها «لما كانت الحروب تتولَّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام (4).

وجاء في الدورة الثانية والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة (1997م) طلب إدراج بند تكميلي في جدول أعمال الدورة تحت عنوان «نحو ثقافة للسلام»؛ جاء في المذكرة ما يلي: «ويتطلب بناء ثقافة للسلام عملا تربويا وتثقيفياً واجتماعياً ومدنيا شاملا يتاح خلاله لكل شخص أن يتعلم ويعطي ويشارك: وإستراتيجية عالمية متفتحة الذهن تتوخَّى هدفاً محددا ألا وهو جعل ثقافة السلام لا تنفصم عن الثقافة بذاتها، مع ترسيخها في أفئدة وعقول الناس؛ وليس السلام هو غياب الخلافات أو النزاعات فحسب. وإنما هو عملية إيجابية ديناميكية وتشاركية مرتبطة بشكل لا ينفصم بتحقيق الديمقراطية والعدالة والتنمية للجميع؛ وبما يكفل احترام الاختلافات وتشجيع الحوار وتحويل النزاعات بصفة مستمرة بفضل وسائل اللاعنف إلى سبل جديدة للتعامل(5).

ويشير سامي جرجس إلى أن ثقافة السلام وهي ضد ثقافة الحرب ينبغي أن تحتوي على عدة أبعادٍ منها(6):

- التعددية؛ لأن تجاهلها أدى إلى أشكال متعددة من الصراعات والحروب.

- إقرار الأمان المتبادل بين أعضاء المجتمع الدولي عبر خلق نوع من التضامن والإحساس بهوية واحدة تتعلق بالجنس

- تبني قيم التسامح واحترام الآخر. والاختلافات الموجودة بين البشر.

- التواصل والتعارف بين البشر.

- إزكاء المشاعر والعلاقات الحميمة بين الأفراد على كافة المستويات بدءاً من الأسرة ومروراً بالمجتمع والحيز الإقليمي وصولاً إلى المجتمع العالمي.

السلام في الرؤية الإسلامية:

إن استقراء مفهوم «السلام» في المصادر الإسلامية -سواء ما يتصل منها بالفضاء اللغوي أو المعجمي أو القرآني للمفهوم- يمدنا بمجموعة من المعاني والمضامين يمكن من خلالها استخراج مفهوم تربوي عربي للسلام؛ حيث ذكر السلام في حوالي 49 موضعا من القرآن الكريم: بالإضافة إلى مشتقاته التي منها: سلم؛ وأسلم؛ ومسلم, وغيرها من الألفاظ التي تحمل معنى «السلام»؛ والاستقراء المبدئي والعام يوضح لنا المعاني التالية لجذر مفهوم السلام -في هذه الفضاءات السابقة- وهي: اسم من أسماء اللّه الحسنى؛ فهو جلَّ شأنه «السلام»؛ البراءة من العيوب والآفات الظاهرة والباطنة؛ البقاء في الجنة، الإسلام: السلم؛ التصالح، الوقاية؛ التحية: السداد من القول(7).

هذه الشبكة من المعاني يمكن من خلالها تحديد أبعاد مفهوم «السلام» الذي يتضمن -بحسب الرؤية العربية الإسلامية- عدة دوائر؛ هي:

1- السلام مع النفس (السلام الداخلي).

2- السلام مع المجتمع المحيط (الأسرة المجتمع).

3-السلام مع العالم.

إن بناء مفهوم مقارب لـ«التربية من أجل السلام» في هذا المدخل يتطلب الوقوف على عدة أبعاد معرفية تربوية؛ هي:

1- الرؤية الكلية الإسلامية ومكانة الإنسان والعالم فيها.

2- الطبيعة الإنسانية -كما فصلها الإسلام- ومكوناتها الأساسية (الروح والجسد).: (النفس الروح: العقل) وتشكلات فطرتها الأصلية (الخير والشر).

3- القواعد والمبادئ الحاكمة للسنن في الكون وفي الإنسان والتاريخ والمجتمعات.

4- القيم الأساسية في الإسلام والمقاصد العامة للشريعة.

5- النظرية الاجتماعية الإسلامية، ومبادئها الحاكمة في السنن والأنفس.

وتشير إحدى الدراسات إلى أن مفهوم السلام يلزم تفكيكاً لكل من الوحدات المفهومية التي يتصل بها لتكون على النحو

التالي(8):

1- السلام الفردي والأسري:

أ- السلام الداخلي للطفل الفرد.

ب- السلام داخل الأسرة الصغيرة.

ج- السلام داخل الأسرة الممتدة.

2- السلام المجتمعي:

أ- السلام مع الجيرة.

ب- السلام في المدرسة أو العمل.

ج- السلام مع المجتمع الأوسع

3- السلام ما فوق المجتمعي:

أ- الوطني (العين والمجرد).

ب- الإقليمي (المحسوس والمجرد).

ج- العالمي (الدولي والإنساني).

ويُعد بناء مفهوم «السلام» في الإسلام - في الوقت الحاضر- ضرورة منهجية؛ ذلك لأن اختزال رؤية الإسلام للعنف في مسألة الحرب أو السلام بصورة تقليدية هو افتئات على طبيعة الإسلام كنظام حياة متكامل يقوم على رؤية كلية للإنسان والعالم؛ فهي رؤية تستدعي أمورا أخرى غير الحرب والسلام (باعتبارها مجرد حالات أو أدوات) مثل الرؤية للإنسان والعمران والتعدد والتنوع والاختلاف والتعارف والتواصل؛ كما تستدعي مبادئّ وقواعد أو سننا تتصل بالإنسان وعلاقته بالكون وبالآخر وهي تنبع من صميم الرؤية لعلاقة الإنسان باللّه(9).

وتطرح الأكاديمية د. نادية مصطفى مقاربة لمفهوم إسلامي للسلام وهو مفهوم السلام الحضاري: الذي تناقشه عبر ثنائية السلام والعنف في ضوء الأبعاد المعرفية التالية:

1- إن السلام والحرب ليسا نقيضين أو بديلين» ولكن السلام والحرب حالتان يعرفهما بدرجاتهما المختلفة الإنسان والكيانات الاجتماعية.

2- السلام ليس مثالية فردية أو حالة انعزالية عن المشكلات السياسية والمجتمعية القائمة: ولا يتحقق لدى الإنسان بمفرده ولكن السلام حالة واقعية ومبادرة وحركة وتفاعل تقتضي إدارة نوازع الفرد بين المثالية والواقعية؛ ولا يكفي أن تبداً من الإنسان فقط وتتوقف دون ذلك.

3- السلام ليس وسيلة للاستقرار (بمعنى الجمود) وعدم التغيير الجذري؛ ولكن السلام غاية لا تتحقق إلا بتوافر شروطها وخاصة العدالة والحرية فالسلام نتيجة وليس شرطا مسبقا.

4- العنف ليس نقيض السلام في كل الحالات: ولكن بعض أنواع العنف تكون سبيلاً للسلام العادل: كما في حالة المقاومة لكل أنواع الظلم.

5- السلام لا يتحقق باستبعاد الدين باعتباره مصدراً للصراعات والنزاعات، ولكن المشترك بين الأديان يمثل منظومة قيمية قادرة على تحقيق السلام؛ وذلك إذا أحسن كل طرف فَهْمَ دينه.

6- السلام لا يتحقق فقط من خلال حوار الأديان بين الملتزمين والمتدينين تهدئة للتوترات الدينية بينهم: ولكن يتحقق السلام من خلال تحفيز دور الدين وقيمه في حل مشكلات الإنسان والمجتمع والوطن والعالم وعلى نحو يتطلب ما هو أوسع من مجرد الحوار بين أبناء ديانتين بانفصال عن مجتمعهم وسياسة دولهم.

7- السلام يبدأ من عقل الفرد وقلبه ولذا فهو مسؤولية الإنسان ابتداءً. ولكن السلام وإن كان ينطلق من الإنسان. إلا أنه لا يتحقق ويكتمل إلا بجهد من أعلى أيضا فهو ليس مجرد منتج إنساني فرديء ولكنه يحتاج إلى منظومة متكاملة.

8- السلام ليس أداة من أجل الرخاء والرفاهية (الجزرة) بغض النظر عن أمور أخرى قيمية (مثل: الحرية؛ والكرامة، والهوية؛ والعزة)؛ وذلك لأن السلام هو نتيجة للعدالة وحق تقرير المصير والحفاظ على الهويات والخصوصيات المنفتحة والمتعارفة على بعضها بعضاً.

9- السلام لا يتحقق بضمان حقوق الثقافات الفرعية ولو على حساب تماسك الأوطان واختراقها من الخارج: ولكن يتحقق باحترام هذه الحقوق وباحترام الثقافة السائدة أيضاً.

10- العنف أو السلام ليسا خصائص هيكلية أو كامنة في ثقافات أو شعوب دون أخرى؛ ولذا فإن ثقافة العنف مثل ثقافة السلام: تنتشر بأشكال ودرجات مختلفة لدى كافة الشعوب.

هذه مقاربة لمفهوم السلام في الرؤية الإسلامية تحتاج إلى مزيد من التحليل لبيان المفردات الرئيسة لمفهوم السلام: والمجالات الأساسية. والقيم الفاعلة؛ ووسائل التحقيق في الواقع الاجتماعي والإنساني.

***********

الهوامش

(1) برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، ج 3 القاهرة؛ الهيئة العامة للكتاب:2011: ص 79.

(2) لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي: جيران في عالم واحد؛ الكويت؛ عالم المعرفة، عدد (201): 1995: ص 34.

(3) نداء لاهاي من أجل السلام، مناحي تربية السلام وأسسها المنطقية: جنيف: مكتب السلام الدولي: 2000: ص31.

(4) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة: النصوص الأساسية: باريس، اليونسكو؛ 2014: ص7.

(5) نادية مصطفى: «إشكاليات القراءة في مفهوم ثقافة السلام وخرائط إعادة بنائه من منظور حضاري»: ص9

(6) سعد جرجس؛ سامي. ثقافة السلام: سلسلة مفاهيم: القاهرة؛ المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية, 2009، ص 8 - 10 (باختصار)

(7) تتبعنا هذه المعاني في:

- جمال أبو الفضل ابن منظور: لسان العرب: مج 6: مرجع سابق؛: ص 342 - 343.

- أبو بكر أحمد البيهقى: كتاب الأسماء والصفات؛ بيروت؛ دار الكتب العلمية؛ د.ت؛ ص53

- الراغب الأصفهانى: مفردات ألفاظ القرآن؛ دمشق؛ دار القلم 1992, ص 421 –424

- محمد فؤاد عبدالباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: القاهرة؛ دار الحديث؛ مادة (سلم) 1996: ص436 439-.

(8) أحمد عبدالله: «مقترحات أولية للشق البحثي في مشروع التربية من أجل السلام» في: لقاء الخبراء التربية من أجل السلام: لقاء الخبراء التربية من أجل السلام: القاهرة: مركز مطبوعات اليونسكو, 3 ص 40.

(9) نادية مصطفي: «إشكاليات القراءة في مفهوم ثقافة السلام وخرائط إعادة بنائه من منظور حضاري» ورقة مقدمة إلى اللقاء الفكري: معاً نحو بناء ثقافة السلام؛ المنيا الهيئة القبطية الإنجيلية: 2008؛ ص 15.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين