مفهوم الحرية

من القيم الإنسانية التي عظَّم أمرها ورفع شأنها الإسلام: الحرية التي ترفع عن الإنسان كلَّ ألوان الضغط والقهر والإكراه والإذلال، وتجعله ـ كما أراد الله له ـ سيداً في الكون، عبداً لله وحده.

وتشمل هذه الحرية: الحرية الدينية، والفكرية، والسياسية، والمدينة.

إنها تعني : تخلص الإنسان من كل تسلُّط عليه بغير حق، من سلطة جائرة أو قوة قاهرة.

وفي هذا جاءت كلمة عمر بن الخطاب لواليه على مصر عمرو بن العاص، وهي كلمة محفورة في ذاكرة التاريخ: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

ويقول علي بن أبي طالب في وصيته لابنه: «ولا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً».

والحرية قد يعبَّر عنها بالكرامة، أو بالعزة،...

والإسلام يحرِّض على القتال وإعلان الحرب من أجل تحرير المستضعفين في الأرض من نِيْر الطغاة المتجبِّرين، يقول تعالى: [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] {النساء:75} .

وإذا لم يقدر الناس على مقاومة الطغيان والاستبداد، فلا أقل من أن يهاجروا من ديارهم، ولا يقيموا على الهوان تحت نِيْر الظلم والاستعباد.

وقد توعَّد القرآن الكريم بالوعيد الشديد مَنْ رضي بهذه الحياة المهينة، واستسلم لها طائعاً، فلا هو قاوم مع المقاومين، ولا هاجر مع المهاجرين.

 يقول الله عزَّ وجل: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا] {النساء:ـ 97ـ 99} .

 وينبغي أن يعلم أن هذه الآيات الكريمة في شأن المسلمين الذين يُقيمون في دار الكفر، وليست في المسلمين الذين يغزوهم الكفار في دار الإسلام، فالواجب عليهم أن يتشبثوا بأرضهم وديارهم وأن يصبروا على الأذى والاضطهاد، ولا يفرِّغوا لهم دار الإسلام، فيتمكنوا منها، ويرسخوا فيها، كما فعل الأسبان بعد طرد المسلمين من الأندلس، فقد خلصت لهم، وضاعت على المسلمين، كما تريد إسرائيل أن تفعل بالفلسطينيين، فلا يجوز لهم ترك الأرض لهم، فهي جزء من دار الإسلام، وإن حكمها الكفار، ما دامت متصلة بسائر دار الإسلام.

 إن الأساس الحقيقي لتحقيق مبدأ الحرية هو: التوحيد. وكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) تعني إسقاط المتألهين والمُتجبِّرين في الأرض، وإنزالهم من عروش الربوبية المزيفة، والاستعلاء على الخلق، إلى ساحة المشاركة للناس جميعاً، في العبودية لله، والبنوة لآدم.

 لقد أسقط الإسلام الآلهة المزيفين، الذين قدَّسهم الناس، واتخذوهم أرباباً من دون الله، سواء أكانوا من رجال الدين أم من رجال الدنيا والسلطان، كما قال تعالى في شأن أهل الكتاب: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] {التوبة:31} .

 ولهذا كانت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر وأمراء النصارى وملوكهم في مصر والحبشة وغيرها مختومةً بهذا النداء: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] {آل عمران:64} .

 كانت هذه الكلمة:[وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ] {آل عمران:64} إيذاناً بمولد جديد للبشرية، فلا يتألَّه بعضهم على بعض، ولا ينحني بعضهم لبعض، ولا يسجد بعضهم لبعض، ارتفعت الجباه فلا تسجد إلا لخالقها، واستقامت الظهور، فلا تركع إلا لبارئها، وعز الناس فلا يذلون إلا لله الواحد القهار.

الله وحده هو الذي تتجه إليه القلوب راجية خائفة، هو الذي تمتدُّ إليه الأيدي والألسن سائلة ضارعة، وهو الذي يملك وحده العطاء والمنع، والخفض والرفع، والوصل والقطع.

وهو وحدَه هو الذي يَملك حقَّ التشريع المُطلق للبشر، بحكم خلقه إياهم، وإمدادهم بالنعم التي لا تُحصى، فهو الذي له (الحكم) وله (الخلق والأمر).

[أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلا] {الأنعام:114} .

إنَّ أعظم ما دمَّر حريَّة البشر، وأتى على بنيانها من القواعد: اتخاذ بعض الناس أرباباً من دون الله، ولكي يستردَّ الناس حريتهم وكرامتهم، يجب تحطيم هؤلاء الأرباب الأدعياء، والآلهة المزوَّرين، خصوصاً في أنفس الذين توهَّموهم أرباباً حقاً، وهم مَخلوقون مثلهم، لا يَمْلكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا مَوتاً ولا حياةً ولا نُشوراً .

ولقد دعي مشركو العرب إلى هذه الحقيقة منذ دعا النبي صلى الله عليه وسلم من أول يوم إلى شهادة التوحيد، وعلموا أنَّ وراء هذه الكلمة انقلاباً في الحياة الاجتماعية والسياسية، وأنها تؤذن بميلاد جديد لبني الإنسان، ولا سيما الفقراء والمستضعفين والمسحوقين، فلا غرو أن وقفوا في وجهها، وجنَّدوا كل قواهم لحربِ كلِّ من آمن بها، واستجاب لندائها.

استغلَّ أعداءُ الإسلام هذه الكلمة، فوسعت دائرتها توسيعاً وتعميماً ينافي منطق العلم ومبادئ الأخلاق ومصالح الناس.

واستغلَّ هذا الشعار لتبرير كل فساد وإفساد، ولمصادرة حياة الخصوم، وأمنهم ومالهم.

فَهِمَ الفاسقون والفاسقات الحريةَ على أنَّ لهم الحق الكامل في أن يفسقوا ويفجروا كما يشتهون دون أن يكون لأحد حق في محاسبتهم، أو كفهم عن فسقهم وإباحتهم..

فَهِمَ مُحتالو الأموال الحرية على معنى إطلاق أيديهم في الغشِّ والسلب والاحتكارات بسلب الناس أموالهم وهم غَافلون.

فهم العمال والصناع الحرية على معنى استخدام تكتلاتهم وتنظيماتهم للوصول إلى الاستيلاء على أموال أرباب العمل، ومصانعهم، ونهبها وسلبها، أو استحقاق الأجور المُرتفعة دون أن يقوموا بعمل يستحقون عليه الأجور التي يطالبون بتقاضيها.

فهم بعض النساء الحرية على معنى انطلاقهن من ضوابط العفّة، وتمردهن وانسياحهن بحسب أهوائهن، وتفلتهن من كل ضابط خلقي وواجب اجتماعي.

فهم المراهقون والمراهقات، والفتيات والفتيات الحرية على معنى الانفلات الأرعن، والتمرُّد على الأسرة وعلى المربين والمعلمين.

هذا ما أراده المفسدون في الأرض وخطَّطوا له، وأطلقوا من أجله شعار الحرية، ووسَّعوا من ساحتها، وعمموها تعميماً فاسداً، مُصادماً للحق والخير والفضيلة.

إنَّ الحرية إذا لم تقم على أساس العبودية لله كانت نذيرَ شُؤمٍ وخراب، وفوضى واضطراب، وصراعات بشرية تدمِّر الحضارات، وتمهد لأن تُحلَّ بهم سنَّة الله في الذين خَلَوا من قبلهم، إهلاك عام، وعذاب أليم.

فما هي مجالات الحرية ... وما هي القيود عليها؟!!...

حريَّة الاعتقاد ـ أداء الشعائر وفق الاعتقاد ـ حرية التعبير عن الأفكار، والآراء ما لم تكن دعوة لضر وشر وباطل وضلال وظلم وعدوان .

فلا حرية في ظلم ولا عدوان، ولا حرية في مُخالفة الحق والعدل والخير...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 25/11/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين