مفارقة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم للبلد الحبيب

كانت مكة المكرمة أحب بلاد الله تعالى إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففيهاكان مولده ومدرج صباه وشبابه ورجولته، وفيها تزوج وأنجب وعاش في أسرة كريمة حانية، ومع زوج ظلَّ يذكرها في حياته بكل خير وحُب وإعزاز،وفيها غار حراء الذي كان يتعبد فيه حتى جاءه جبريل وبدأ وحي الله تعالى إليه في هذا الغار بآيات بيِّنات تُتلى إلى يوم الدين: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) } [العلق].

وفي مكة المكرمة فوق كل هذا: البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، والذي تُشد الرحال إليه من عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام حوله الذين يقومون على رعايته وخدمته وصيانته فكانت قبيلة قريش لذلك ذات مكانة سامية بين القبائل كلها وكانت تجارتها تغدو وتروح في رحلتي الشتاء والصيف لا يتعرض لها أحد ولا يقطع عليها الطريق قاطع احتراماً لأهل هذا البيت العتيق، وماكان ذلك الأمن يتحقق لتجارة أخرى غير تجارة أهل هذا البلد الأمين الذي امتن الله تعالى عليه بقوله:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4) } [قريش]. وبقوله سبحانه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:57]. وبقوله جل شأنه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ }[العنكبوت:67].

ونِعَم أخرى كثيرة أنعم الله تعالى بها على مكة وأهلها، فأسكن حُبِّها في قلوب الناس وأفئدتهم استجابة لدعوة إبراهيم عليها لسلام إذ قال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. وبلغ أذان إبراهيم عليه السلام بالحج إلى جميع خلق الله تعالى فجاءوا إلى بيت الله في مكة رجالاً وركباناً من كل فجّ عميق، وحمى الله سبحانه بيته من عدوان أصحاب الفيل، {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ(5) } [الفيل]. 

وكانت حادثة الفيل في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارهاصاً بمقدم نبي آخر الزمان الذي أكمل الله تعالى به الدين وأتمَّ به النعمة وارتضى للمؤمنين برسالته الإسلام ديناً.

ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفارق هذا البلد الحبيب إلى قلبه عن رغبة واختيار منه وقد عبَّر عن ذلك حين ألجأه قومه إلى الهجرة من مكة فقال وهو يلقي عليها نظرة وداع إلى حين: (والله إنك لأحب أرض الله إليَّ،وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) عبارة تَفيض بحب الوطن وتعلق القلب به، وقد ظل هذا الحب في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تنطفئ شعلته ولا يخبو نوره، وكان في قلوب المهاجرين قبس من هذا الحب وحنين إلى هذا البلد الذي حباه الله تعالى بكل هذه النعم، ويظهر ذلك في الفرحة الغامرة التي ظهرت عندما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أنه رأى في منامه وهو بالمدينة أنه دخل هووأصحابه المسجد الحرام وطافوا واعتمروا وحلق بعضهم وقصَّر بعضهم، فاستبشروا وتجهزوا فرحين بالوصول إلى مكة ودخولها فهي مهوى أفئدتهم ومحبوبة قلوبهم والبيت الحرام حرموا منه ست سنين فالحنين إليه كبير ومتى يلتقي الحبيب بالحبيب، وقد كان ماكان من أمر الحديبية وصد المسلمين عن البيت في هذا العام على أن يعودوا في القابل يعتمرون ويطوفون بالبيت في أمان من أي اعتداء أو مضايقة، وصدق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا بالحق.

ويَظهر حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمكة المكرمة عندما توجّه جيش المسلمين لفتح مكة في رمضان من العام الثامن للهجرة، وكانت راية الأنصار معسعد بن عبادة رضي الله عنه فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً، فلما حاذى رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال: فقال: كذا وكذا فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى ابنه قيس،ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد.

أيُّ حبّ أغلى وأحلى وأكرم من هذا الحب الذي يتجلى فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اليوم يوم أعزَّ الله فيه قريشاً، ألم تكن قريش قد أخرجته من مكة مهاجراً تاركاً أهله وماله منذ ثماني سنوات مضت في عدوان من قريش وحرب بعد حرب وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ألم تكن قريش هذه هي التي تآمرت على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعدت لذلك كل العدة،وأحاطت ببيته ليلة الهجرة لتنفيذ فعلتها النكراء التي عزمت عليها، وخيَّب الله تعالى مسعاها ونجى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من كيدهم ومكرهم، وقال فيهم:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. قريش هذه يأتي إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة لتحقيق عزها وتعظيم البيت الذي أخرجته منه وصدته عنه، إنه الحب لهذا البلد الأمين يتجلى في أروع ما يكون الحب وينتج آثاره من نسيان الماضي الكئيب والعفو عند المقدرة والرغبة الصادقة في الإحسان إلى أولئك الذين أساءوا وبوا واعتدوا وأخرجوا الرسول والمؤمنين من ديارهم وأموالهم ظلماً وعدواناً:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ }[الحج:40].

ويظهر حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمكة وأهلها حين دخل مكة وقد فتحها الله تعالى عليه، خاشعاً لله متواضعاً حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، ولم يدخلها منتصراً ظافراً مزهواً بأن أمكنه الله تعالى من رقاب الذين أخرجوه مهاجراً، بل إنه وقف يخاطب قريشاً وقد ملأت المسجد الحرام صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده... ثم قال: (يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، والناس لآدم وآدم من تراب ثم تلا قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كماقال يوسف لأخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء).

وقد كان هذا الحب الكبير الذي ظهرت آثاره في العفو ولين القول وتأمين أهل مكة على حياتهم وأموالهم وكل مقدراتهم سبباً في قلق الأنصار وتخوفهم من أن يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البقاء بمكة بلده وموطنه فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة رضي الله عنه وجاء الوحي وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء ليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ينقضي الوحي، قال رسول الله: يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسو الله، قال: قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته قالوا: قد كان ذلك، قال: كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم، فأقبلا يبكون و يقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا للضن بالله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم...).

هذا حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوطنه وأهله وهذه بعض مظاهر هذا الحب الكريم وقلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلب كبير يتسع لحب جميع المؤمنين ويتسع للحرص على هداية الناس أ<معين، وبه يتقدى ويتأسى في حب الأوطان والحنين إليها عند الاغتراب عنها:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة منبر الإسلام، السنة السادسة والخمسون، محرم 1418 - العدد 1

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين