مفارقات ومغالطات

قالوا صراحة: سنستصلح الحياة على كوكب المريخ.

قلنا تعريضاً أو تلميحاً: سننشر المجاعات في الفيافي والحقول، سنزرع الأفيون عوضاً عن شجر الصنوبر والرمان، والقات في كل أرض في كل مكان.

قالوا: سنمطر الغيم الصناعي في أراض قاحلة... لتغدو الصحراء واحات عذراء وستكتفي وجبات الغد الغذائية - بحبوب نبتلعها توفيراً للوقت والجهد الثمين.

قلنا: سنهدم مدارس التعليم ونبقي مدارس الجهل مزروعة في كياننا، ونعبث بالمستشفيات نتركها بلا دواء ولا أطباء، وسنكثر من المحافل التأديبية (المعتقلات) حتى نسلب من الإنسان حرية الإنسان ونكمم فاهه، ونذيقه شؤم الكلمة ووبال الاعتراض.

وقلنا: سنشد الطوق إلى الرغيف الرهيف، ثم لا يكون إلا ومعه رأس الإنسان كالذيل للحمار يتبعه..

قالوا وقلنا، ولم يستثنوا قط، وما استثنينا.

مشاريع كثيرة، تلدها المشاريع في كل عشر من أعشار الساعة المتوترة في أعصابهم العلمية، الباردة الساكنة سكون الموتى في أعصابنا المتواكلة المتثائبة في أفضل الأحوال.

إن الأمر كله لا يعدو عندهم أن تكون الأرض كل الأرض، مختبراً لتجاربهم المثمرة والمدمرة، الناجحة والفاشلة، ما ينفع الإنسان وما يحاربه.

ولا يعدو الأمر كذلك أن تبقى أراضينا البور في مخططاتهم، وتجاربهم يدرسون ذراتها، ويهيئون سماءها، ويوطنون أرضها، ونحن غُفْل نائمون، أو أذيال متَّبعون. بل ما زلنا نستلهم كلّ ما يقتل المواهب الأدبية والعلمية، وكل ما يدمّر فينا رغبة البناء والعطاء والجدية الواعية.

ومن المدهش أن النتائج بين ما قدَّموا وبين ما قُدِّم لنا لم تكن مُتباينة إلى حدٍّ كبير. فشريعة الغاب هي الحاكمة

 

بعيداً عن الإنسانية التي تشمخ بالإنسان ووجوده، إلى عوالم السعادة الحقة، غريباً عن غايته التي خلق من أجلها.

فإن زمام المدنية التي يتزعمونها قد أفلتت عقالها من أياديهم، فهم يتطاولون بلا غاية، ولا هدف، إلا نهباً للملذات التافهة، أو تكديساً للأموال، أو تقديساً للذات ورغباتها ولو على حساب المجموع ومصالحه.

والحال عندنا لا يختلف كثيراً غير أن الوسائل بين أيدينا تبدو أكثر غباء، وأشد تأثيماً وتشنيعاً وصفاقة.

المدنية الصقيلة المبهرجة، لا تخرج عن كونها ذات وجوه وألوان، منها الجميل المفيد.. وكثير منها كالح بشع..

وتبعيتنا مقيتة من كل وجوهها، شمطاء تتلون لتخزى، وتتقلب في ثياب العار تستعيره ثم لا تحس في ذلك عاراً ولا شناراً.

وأولئك أليسوا يدسون في أرحام النساء، غرة، ما تقذفه الكلاب ليخرج من بعد مخلوقاً لا هو إلى الكلاب يعوي، ولا هو إلى البشر يأوي.

أليسوا يقتلون الأجنة في بطون أمهاتها قانوناً متبعاً، ثم يعكفون على تربية الكلاب والخنازير. وليس غريباً ما

ذكرته إحدى الصحف يوماً عن محاكمة امرأة ذبحت ولدها وصرفت عظامه عبر مجاري الحمامات إخفاء لجثته، وعن السبب قالت بلا خجل ولا وجل: لقد كان «هنري» شديد العبث بكلبي المدلل.

أما القتلة عندنا فلا يحتاجون إلى تفنن في طرق تصريف الجثث الجماعية.. لقد أعدوا لها ما استطاعوا من مقابر تجمعهم أحياء، وتدفنهم أحياء، بتصريحات قانونية لم يحاكموا فيها إلى جرم ولا إلى جريمة.

لقد حققت مدنية اليوم، كل شيء كان بالأمس مستغرباً. لقد ذللت الصخور الصم، وأنطقت الآلة الحدباء الصماء، واخترقت حجب الفضاء.

أما عندنا فقد أنطقت السياط بما لم تتكلّم، واللسان بما لم تفعله الجوارح، واستذلت الإنسان وقد كان كالجبال الراسيات. وهي بيننا وبينهم قد مسخت وجدان الإنسان، وأخرست أبجديات الإنسانية، واستحكم المرض وعم البلاء.

 

وبعد.. فأي معنى لاستصلاح أرض بور، وتخريب أرض العمران! بالقنابل النووية حيناً، وبالمجاعات أحياناً، وباستذلال الرقاب أحياناً أخر حتى استحكم القطع وحُدَّ النصل.. وزاغت الأبصار.

وأي معنى في استمطار السحب لإنبات أرض لم تكن من قبل معروقة، ثم لا يكون بعد ذلك إلا تبديد الفائض عن حاجات الدول العظمى إحراقاً، أو إغراقاً، والبشر في بقاع الأرض تأكل بعضها جوعاً وفقراً وفاقة. ثم لا نجد إلا الراقصين على أطراف الموائد الآثمة، والمآتم النائحة.

وأي معنى لاختصار وجبات الطعام، حبوباً مبتلعة تدفع لأجلها سائر الأموال ومعدة إنسان اليوم منكوبة بالآلام لا يجتازها دواء ولا تتخللها عافية.

شريعة الغاب تقتنص من الإنسان دمه، وشريانه ووريده متفنّنة متعلّلة، وقد فتح لها صدره فزفرت فيه خبثها تحاربه حتى في أكسجين الهواء، وحبة الدواء، إلا أن نحتكم بعيداً عن الهوى والذات والآلهة جميعاً من دون الله. ألا فلنعلم إلى أين المسير. ألا فلنعلم إلى أين تقود الخطى.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين