مــــــعــــــركــــــة الــــفــــرقـــــان

 
 
 
مؤسسة زيد بن ثابت
 
بين أحلام لذيذة توشك أن توأد، وحصار خانق في شِعبي حمص والغوطة...وفضيحة مخجلة لمن يدّعي الإغاثة والنصرة...يقف التاريخ في شهر الانتصارات ليبعث روحاً من أمل جديد! أمل اعتاد السوري أن يستنطقه من الصمِّ الصلاب....فكيف به وهو في شهر رمضان؟!
 
ها هي صور الانتصارات تتابع ذكراها تترى صورة بعد صورة، فبالأمس القريب حلت في رحالنا معركة العاشر من رمضان التي أعادت للمسلمين غلالة من نصر وعزّ كاد ينسى لكثرة الهزائم!
وها هي معركة الفرقان تحط رحالها من جديد، حاملة معها أملاً بفتح قريب...
 
ففي صبيحة السابع عشر من رمضان من يوم الجمعة، فرَق الله بين الحق والباطل...بعد خمسة عشرة سنة من التنكيل بعباد الله، والكيد للمؤمنين، وفتنة كل من أعلن التوحيد، وآمن بدين الحق....
يأذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين بالقتال بعد كل هذه المحن والابتلاءات ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.
 
عدد المؤمنين الذي لم يتجاوز ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً يقل عن عدد المشركين بمرتين، أما عدّتهم فلا تكاد تكفي نصف الجيش، بينما جاء المشركون مدججون بالسلاح ومحملون بالطعام!
 
خرج المؤمنون لرصد قافلة أبي سفيان، ولم يكن في حسبانهم القتال...ولكنهم اضطروا إليه، فما كان منهم إلا أن أداروا المعركة بكل ما يستطيعون من أسباب، غير متذرعين باضطرارٍ ولا قلة حيلة!
 
يقف النبي عليه الصلاة والسلام بينهم، وهو قائدهم الرحيم مستشيراً مستنصحاً، فيقول لهم: كما جاء في الحديث الذي يرويه عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقال أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:
 
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيَّانَا تُرِيدُ؟ فَوَ الَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، ... وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لموسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قَاعِدُونَ) وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ متبعون، ولعل أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ وَعَادِ مَنْ شِئْتَ وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ) .
 
ثم مضى بهم إلى بدر...ليس معه عتادٌ ولا عدد...ولكن معه إيمان وقوةٌ...معه حسن تخطيط وشورى، لا يستبدّ بها برأي ـ طالما ليس ثمة وحيٌ ـ وهو القائد النبي المرسل، فقد جاء في تاريخ الطبري أن النبي عليه الصلاة والسلام نَزَلَ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَمَهُ أَوْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ وَنُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ ، ثُمَّ نبني عليه حوضاً فنملؤه مَاءً، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ فَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم ذلك من رَأْيِهِ، وَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ).
 
ثم يحيي ليلته صلى الله وعليه وسلم ومعه المؤمنون داعيين متبهلين، فها هم قد بذلوا ما عندهم من أسباب، واستفرغوا ما استطاعوا من وسْع، ثم اتكلوا على رب العباد، فما كان من النصر إلا أن جاءهم على أجنحة الملائكة﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.
 
إن غزوة بدْر تعلمنا ـ ونحن في أمس ما نحتاج أن نتعلم ـ أن المعارك والأحداث الكبرى في التاريخ تفرُق بين الحق والباطل، وتفضح النفاق وتعريه، ليبقى الحق أبلج لا تشوبه شائبة﴿ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾.
 
إنها تعلمنا أن النصر لا يتحقق عن قوّةٍ، ولا عن عتاد، ولكنه إيمان، وقوة عقيدة، النصر شورى بين المؤمنين ووحدة راية...إن النصر لا يتحقق لقوم لهم ألف غاية وألف راية...إن النصر لا يكتب إلا لمن كانت غايتهم إعلاء كلمة الله، وبذلوا لتلك الغاية ما يستطيعون واستفرغوا لها ما يملكون من وسع!
إنها تعلمنا أن الصبر على الأذى والتنكيل ليس بعده إلا الفرج والتمكين للمؤمنين!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين