قال صاحبي: لعلك قرأت لا مية زين الدين الوردي؟.
قلت: وأنا معجب بها، ففيها حِكم وعظات، وخبرة واعية في الحياة لخصها صاحبها رحمه الله خفيفة على البحر الوافر ذي النغمة الموسيقية مقام " البيات "، وما أقرؤها إلا هكذا- منغمة- أوقاتَ فراغي أو بين معارفي.
قال: أوَما وجدت فيها بعض الأفكار غير الناضجة ؟
قلت: ألا تذكر قول ابن برد:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ؟=كفى المرءَ نبلاً أن تُعَدّ معايبُه
قال: ولكنها أخطاء شاعر كبير !..
قلت: تذكر قول الإمام مالك رضي الله عنه وهو في مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول منبهاً إلى الطبيعة البشرية الناقصة: " ما من رجل إلا أخذ منه ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر " وأشار إلى حيث يثوي الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ,...
وأردفت متسائلاً: ثم قل لي يا صاحِ: أهي أخطاء فادحة ؟ إني لا أرى ما تقوله، فهلا أفصحت فما كان يخطر ببالي ما تظنه؟.
قال: ليست أخطاء بل مآخذ قد أكون المخطئ فيما فهمت، إنما هي أفكار أود طرحها في لقائنا فأردت استثارتك، وهذا أسلوب لقدح العقول وشحذ القرائح.
قلت: لا حاجة إذاً للخوض فيما نتفق، فهات ما تظنه نقصاً أو أفكاراً غير ناضجة كما ذكرتَ، علني أوافقك عليه أو أناقشك في ما لم يرق لك.
قال فلنبدأ بالمقدمة:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل=وقل الفصل وجانب من هزلْ
ودع الـذكـر لـأيـام الـصـبــا= فـلأيــام الصـبـــا نجــم أفــَـلْ
إن أهـنــا عـيشـة قـضـّيتـُهـا= فـنيـت لـذّاتهـا، والإثـمُ حــلْ
واترك الغادة، لا تحفل بهـا= تُمسِ في عـزّ رفـيع، وتُجَـلْ
فابن الوردي يدخل علينا بالأمر: اعتزل ودع واترك ولاتحفل.. والأمر الكثير منفـّر، لا أرتاح له. ويطلب إلينا أن نعتزل النغم والشدو، وهو سجية من سجايا الإنسان التي جبل عليها،، وربما أراد التخفيف منها لا تركها بالكليّة، إلا أنه – برأيي لم يوفق في ذلك.. كما أنه يأمر بنسيان الماضي – أيام الصبا والجمال – ومن منا يرضى أن ينسى أحلى أيام حياته – الشباب - ؟ وعلام ينساه، والشباب جنة الحياة ونسغها النضير المتفجر بالحيوية والقوة ؟! وهل الحياة إلا ذكرى وحاضر ومستقبل ؟ ولا يقوم الأخيران إلا على الماضي.. ولئن أفل الماضي إنه ليعيش فينا، ونتنسمه مسكاً وريحانا.
ومَن قال إن الإثم ملازم أحلى أيام قضيناها ؟! وهل بالضرورة أن يكون السعد بما يغضب الله تعالى ؟! إنها لأفكار شيطانية لا يقول بها إلا من انغمس شبابـَه بالأخطاء، فلما كبر وعقل ذهبت النشوة وجاءت الحسرة، وقد كانت حياتنا في صبانا طيبة النشر عبقة الرائحة، ولم يكن فيها إثم بفضل الله ورعايته، إنما كانت في مرضاة الله وطاعته، ولئن ذهبت لذّاتُ الشباب إن للكهولة والشيخوخة وكل مراحل الحياة لذاتٍ خاصة بها، تناسبها ويسعد الإنسان بها. ولو ذهبتِ اللذاتُ كما يدّعي زين الدين ابن الوردي لانقلبت حياة الناس جحيماً. ولطلبوا الموت
وعلى هذا تراه يطلب التحول عن الغادة وعدم الاهتمام بها، وكأن اللذات عنده مادية فقط ! ولمَ لا تكون الزوجة – مثلاً – غادة الرجل ؟ ولماذا ينصرف الرجل عن المرأة الصغيرة أو الكبيرة مادام يرى في نفسه الرجولة ؟ أليس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم منارات وقدوة في كل مناحي الحياة ؟!.
وتعال معي إلى أبياته التالية تخجل من التصوير الذي رسمه للغلام الأمرد في غير موضعه، وسمّه إن شئت تكلفاً ولزوماً من الشاعر لا يلزم:
والـْـهُ عـن آلـة لـهــو أطـربـتْ=وعن الأمـرد مـرتجّ الكفـلْ
إن تبَدّى تنكسفْ شمسُ الضحى=وإذا ما ماس يُزري بالأسلْ
زاد إن قـِسـنــاه بالـبـدر ســنــا= أو عدلنـاه بغصن فـاعتـدل
فهو يسمح لنفسه أن ينظر إلى ارتجاج كفل الفتى فيصورَه، وإلى صباحة وجهه الأمرد، وجعلَ جماله يفوق الضوء الشمس، وميلانه في مشيته ممشوقاً يزري بليونة الرماح النضرة، وهو أجمل من القمر.. و.. صور مبتذلة تثير التقزز، وتقدح بالمعنى الذي يتلوه مباشرة:
وافتكـر في منتهى حسـن الذي=أنت تهـواه تجد أمراً جـلـلْ
قد انتقل من الأسود إلى الأبيض مباشرة، فأحرق الصورة الثانية بما أثار من شهوات في الصورة الأولى.
لم أكن أخالف صاحبي كثيراً فيما قاله، فنحن من مدرسة نقدية واحدة، وكثيراً ما سمع مني وسمعت منه، فكنا متقاربين في النظرات، نتغاضى عن ثانويات ما نختلف فيه.
قلت هات، فأنا مصغ إليك.
قال: ويقول ابن الوردي في الدنيا:
اطـرح الـدنـيـا فمن عـاداتهـا=تخفُض العالي وتعطي من سفلْ
كم جهـولٍ بات فـيهـا مكـثـراً=وعــليـمٍ بـات مـنهــا فـي عـلـلْ
فـاتـرك الحيـلـة فيهــا واتـئـد=إنمـا الحـيـلـة في تـرك الحـيــلْ
فالشاعر زين الدين يرى الدنيا على حقيقتها، ويعلم أن الرزق مقسوم، وليس للذكاء و" الفهلوية " دور في الحصول على الرزق، والله تعالى يقول " وفي السماء رزقكم، وما توعدون " ويؤمن بقوله تعالى " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فيطلب الشاعر أن ندع الاهتمام بتحصيل المال ونبتعد عن التحايل له.
قلت: ثم ماذا؟
قال: يقول الشاعر بعدها:
اكتـم الأمريـن فـقـراً وغنى=واكسب الفلس وحاسب من بطلْ
فنصح بالعمل والبحث عن المال !
قلت لم يتعدّ أن فعل ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال كيف ؟
قلت: ألم يأمر الشاب الذي طلب مساعدة - ورآه جلداً- أن يحتطب، وقال صلى الله عليه وسلم " لأَن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه "
ثم اقرأ ما قاله متألماً من عصره ومن أيامنا هذه - لو كان حياً – إذ رأى الناس يعظمون صاحب المال ويقدمونه على الفقير:
غيـر أني في زمان من يكن=فيـه ذا مـال هـو المولى الأجـلّ
واجب عنـد الـورى إكرامُـه=وقـلـيــل المـال فـيهـم يُســتـقــَلّ
ثم يعلن ما ينبغي أن يكون بحق: أن صاحب الفضل لا يعيبه قلة المال أبداً:
لا يضر الفضـلَ إقلالٌ كمـا= لا يضر الشمسَ إطبـاقُ الطفـلْ
قال صاحبي: لم أكن أقصد التعالم أو النيل من الشاعر رحمه الله، فحسبه كرامة أن أجرى الله تعالى قصيدته هذه بين الناس، فعرفها القاصي والداني على مرِّ القرون، وأفادوا منها، إلا أنني أتساءل ليس غير، وأريد الوصول إلى الحق.
قلت هات غيرها يا صاح،
فقال: ينهى الشاعر الناس أن يفخروا بجدودهم وأصولهم، ويحضهم على الاعتماد على أنفسهم كي لا يكونوا خاملين فيقول:
لا تقل: أصلي وفصلي أبداً=إنما أصل الفتى ما قد حصل
قد يسود المرءُ من غير أب=وبحسن السبك قد ينفى الدغل
قـيـمـة الإنـسـان ما يحـسنـه=أكثـرَ الإنـسانُ مـنـه أو أقــَلّ
ثم تراه بعد ذلك يفخر أنه من نسل الصديق رضي الله عنه فيقول:
غـيـر أني أحمد الـلـه عـلى=نسـبي، إذ بأبي بكـر اتصلْ
قلت لا ضير أن يعتمد الرجل على نفسه، ثم يحمد الله تعالى أنه ينتسب إلى رجل عظيم كالصديق رضي الله عنه، فيكون قد جمع بين الحسنيين، العمل الصالح والنسب الأصيل.
ثم رأيت صاحبي ينظر إليّ بعين العتب، فقلت: مالك ؟
قال: شكوتُ من بعض الأفكار ابتداء وظننت ُ أنها غير ناضجة ليس إلا.
قلت: أبقيَ شيء ؟
قال: نعم، واحدة.. ترى الشاعر ينصح، ونصائحه رائعة، إلا أنه يفخر بنفسه ويعتد بها مع تحد واضح، وهذا من الناصح المعلم ممجوج، كقوله:
أنـا مثـل المـاء سـهـلٌ سـائغ=ومتـى أســخـَنَ آذى وقـتــلْ
أنا كالخيـزور صعب كسـرُه=وهْـو لـَدنٌ كيفما شئت انفتل
قلت: لا تنس يا صاح أن من نصائحه التي أعجبتنا أن يحني الإنسان رأسه للإعصار القوي المدمر ليسلم منه، ينحني لا عن ذل وضعف إنما عن حكمة وتبصر حين قال:
جانب السلطان واحذر بطشه=لا تعـانـد مَن إذا قـال فعـلْ
ومن ذلك مداراة السفيه وعدمُ مصادمته والصبرُ عليه، أو الانتقالُ عنه دون مشاكل:
دار جار السوء بالصبر وإن=لم تجِدْ صبراً فما أحلى النقلْ
فلربما ظن قارئ القصيدة ومن سمعها ضعفَ الشاعر وخورَه، فهو ينفي عنه ذلك، ويؤكده قولُ المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه " ليس الشديد بالصّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. " ألم يصبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بطل الأبطال على أذيَة قومه، وإساءاتهم ؟ فلا بد من الصبر على الحياة والناس بقوة وحكمة وشجاعة...
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول