أذيعت من دمشق في 25 من رمضان 1381، جعلها الله مقبولة لديه. آمين.
أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعنوان حديثي الليلة: مع أسباب النزول
فقد بينت في حديثي السابق ليلة الإثنين من هذا الأسبوع أهمية معرفة أسباب النزول، ومَنْ دَوَّنَ فيه الكتبَ من العلماء، وكيف يتوقف فهم كثير من الآيات القرآنية على معرفته، وأوردت بعض الأمثلة على ذلك، وها أنا ذا أتحدث الليلة مشيراً بإيجاز إلى بعض الفوائد التي نستفيدها من الوقوف على أسباب النزول.
قال العلماء: إن لأسباب النزول فوائد كثيرة منها: الاستعانة على فهمِ الآية ودفعِ الإشكال عنها، ونذكر مثالاً لذلك قولَه تعالى:﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.
يفيد هذا النص الكريم بظاهره أن السعي بين الصفا والمروة في الحج جائزٌ وليس بفرض، لأن الآية نفت الجُناح أي الإثم عن الساعي بينهما فقالت: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، ونفيُّ الجُناح لا يفيد فرضية السعي بين الصفا والمروة، هذا ما يتبادر لفهم العالم من ظاهر الآية، ولكن قد اتفقت كلمة العلماء على لزوم السعي على الحاجِّ بين الصفا والمروة، فقام إشكال بين ظاهر الآية والحكم الفقهي، حتى لقد أشكل هذا على التابعي الجليل عمرو بن حبشي، فسأل عنه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال له عبد الله بن عمر: انطلق إلى ابن عباس فسَلْهُ فإنه أعلم من بقيَ بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فسألته، فقال ابن عباس: كان على الصفا صنمٌ على صورة رجل يقال له إساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما تمسَّحوا بهما، فلما جاء الإسلام وكُسِرتُ الأصنام، كره المسلمون الطواف بين الصفا والمروة لأجل الصنمين اللذين كانا عليهما في الجاهلية، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾.
فتبين بمعرفة سبب النزول أن الآية إنما نزلت لتنفي التحرج الذي كان يقوم في نفوس المسلمين من السعي بين الصفا والمروة، وما نزلت لتنفي لزوم السعي الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وحَتَّمَه.
ومن فوائد معرفة أسباب النزول أيضاً: معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما أراده وشَرَعَه في كلامه الكريم، وفي ذلك نفعٌ للمؤمن وغير المؤمن، أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه، لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام، ومن أجلها نزلت الآيات القرآنية، وأما الكافر فتدفعه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان بالله حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الناس لا على الإرهاق والعنت والمشقة، فلذلك كان فيه التدرج بالناس تحويلاً عن الحرام، والتدرج بالناس تكليفاً بالفرائض والواجبات والقيام بها، والأخذ بأحكام الشرع شيئاً فشيئاً بدل أخذهم بها دفعة واحدة.
ولقد ظل القرآن الكريم ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى الإيمان بالله تعالى ويقتلع جذور الشرك ويغرس عقيدة التوحيد، إلى أن طَهَرَت النفوسُ من أدرانها واستعدت لقبول التكاليف والتحلي بالفضائل، فبدأت حينذاك مرحلة التشريع على تدرجٍ وأناةٍ تأخذ بيد الناس إلى تطبيق الأحكام والتمثل بالشريعة حُكْماً فحُكْماً، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري وغيره: إنما نَزَلَ أولُ ما نزل - من القرآن - سورةٌ من المُفَصَّلِ فيها ذِكْرُ الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزلَ الحلالُ والحرام، ولو نزل أولَ شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً! ولو نزل أول ما نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً.
ولقد كانت الخمر عند العرب في الجاهلية تُـمَوَّنُ تمويناً كما نُمَوِّنُ اليوم الزيت والسمن في البيوت، فسَلَكَ القرآن في تحريمها وتحويل الناس عنها المسلك الحكيم، فأول ما نزل في أمر تحريم الخمر قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾. والمنافع هنا هي المنافع التي كانت قريش تجنيها من المتاجرة بالخمر، وليست منافع جسمية، فإن الخمر من هذه الناحية ظاهرة الضرر.
وسبب نزول هذه الآية: أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفراً من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أفتِنا يا رسول الله في الخمر والميسر فإنهما مَذْهَبَةٌ للعقل مَسْلَبَةٌ للمال. فنزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾. وكان في هذا توطئةٌ لتحريم الخمر التي كانت متأصلة في النفوس، وتنبيهٌ للناس على ما فيها من مضرة وأذى، حتى إذا تزلزلت مكانتها من نفوسهم جاءت المرحلة الثانية في تحريمها في أوقات الصلاة على إثر حادثة وقعت لجماعة شربوا الخمر ثم قاموا إلى الصلاة، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ودعا أناساً من أصحاب رسول الله فطعِمُوا وشربوا وحضرت صلاة المغرب، فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون، أعبدُ ما تعبدون. وخلَّط في السورة إلى آخرها، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُون﴾.
فكان في هذه الآية المحَرِّمة لشرب الخمر قبل الصلاة تعويدٌ للنفوس على ترك الخمرة، وتمهيد لمنعها منعاً باتاً لِـما أنها تفتك بالعقل وهو أغلى شيء يملكه الإنسان في هذا الوجود، فكان المسلمون يمتنعون عن شرب الخمرة قرب الصلاة، ويشربونها فيما سوى ذلك من الأوقات، حتى حدثت حوادث كثيرة منكرة من جراء الخمر، وكان من تلك الحوادث حادثة علي بن أبي طالب مع عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما التي رواها البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب: قال: كانت لي شارِفٌ - أي ناقة سمينة - من نصيبي من المَغْنَم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارِفاً من الخُمس، ولما أردت أن أبتني - أي أتزوج - بفاطمة بنت رسول الله واعدتُ رجلاً صَوَّاغاً من بني قَينُقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذْخِر - نوعٌ من النبات - أردتُ أن أبيعه من الصواغين فأستعينَ به في وليمة عُرسي، فبينما أنا أجمع لشارفيَّ من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفايَ مُناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، فإذا أنا بشارفيَّ قد أُجِبَّتْ - أي قُطِعت - أسنمتُها وبُقِرت خواصرُها، وأُخِذَ من أكبادها، فلم أملك عيني من البكاء حين رأيت ذلك المنظر، وقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعله حمزة وهو في البيت في شَرْبٍ – أي في جماعة يشربون الخمر - من الأنصار وعنده أصحابه وقَيْنَةٌ غنَّتُه فقالت في غنائها:
ألا يا حَـمْزُ للشُّرُف النِّواءِ=وهُنَّ مُعقَّلاتٍ بالفَناءِ
ضع السكين في اللَّبات منها=وضرِّجْهُن حمزةُ بالدماء
فأطعم من شرائحها كَبَاباً=مُلَهْوَجَةً على وهج الصِّلاء
فأنت أبا عُمارةٍ المرجَّى=لكشف الضُرِّ عنا والبلاء
فوثب حمزة إلى السيف فأجبَّ أسنمتها وبَقَرَ خواصرهما وأخذ من أكبادهما، قال علي رضي الله عنه: فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، فعرف رسول الله الذي لقيت، فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيتُ كاليوم، عدا حمزة على ناقتيَّ وجبَّ أسنمتها وبَقَرَ خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شَرْب. قال علي: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي، فاتبعت أثره أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأُذِن له، فإذا هم شَرْبٌ - أي جماعة يشربون الخمر - فطفق رسول الله يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثَمِلٌ محمرة عيناه من السُكْر، فنظر حمزة إلى رسول الله ثم صعَّد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حمزة ثَمِلٌ - أي سكران مغلوب - فرجع عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا، فنزل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾، فكانت هذه الحادثة سبب نزول هاتين الآيتين، وقد شاع خبر الحادثة في الناس قبل نزول الآيتين فملأ الأسماع وعرف كل فرد ضرر الخمر وأذاها، فكانت الاستجابة والمبادرة إلى تركها فوراً وسريعاً، فما إن بلغهم النداء في تحريم الخمر تحريماً قاطعاً عاماً حتى أراقوها في سِكك المدينة وطُرِقها تخلصاً من أضرارها وآثامها.
فيا أيها المسلمون، عودوا إلى تفسير كتابكم لتفهموا كلام الله، فإذا فهمتموه تمسكتم به وأقمتموه دستوراً في حياتكم كلها، فكان ذلك خيراً عليكم وعلى الناس جميعاً، والسلام عليكم ورحمة الله.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
الحلقة السابقة هـــنا
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول