معركة جلولاء

15 من ذي القعدة 16هـ 

 

بعد أن حقق المسلمون فتحهم الكبير لعاصمة الفرس «المدائن» أصيب الفرس بهزيمة نفسية مروعة وتشرذمت الجيوش الفارسية تحت الضربات الموجعة للجيوش الإسلامية، وتفرقت فلول الفرس المنهزمة من المدائن والأهواز وغيرها في عدة أماكن، وفي ظلمة اليأس القاتل قرر رجلان من آخر قادة الفرس بقاءً وهما «مهران الرازي» و«الهرفران» تجميع شتات فلول الفرس والتحصين بهم في إحدى القلاع القريبة من «المدائن» لمنع تقدم المسلمين أكثر من ذلك، فاختاروا مدينة على بعد أربعين ميلاً شمال المدائن وكانت ذات موقع إستراتيجي جيد، وبالغوا في تحصينها لتكون عقبة أمام الحملات الإسلامية، وعمل «مهران» على رفع معنويات جنوده بشتى الوسائل للتصدي للمسلمين وأرسل مهران يطلب من كسرى يزدجرد التفويض في قيادة الجيوش الفارسية، وأيضًا الإمدادات من رجال وعتاد وأقوات، فوافق كسرى وأمده بما يطلب([1]).

وصلت أخبار هذه الاستعدادات الحربية للقائد العام للعراق «سعد بن أبي وقاص»، فأرسل جيشًا من اثني عشر ألفًا بقيادة ابن أخيه «هاشم بن عتبة» الملقب بالمرقال ومعه بطل العراق «القعقاع بن عمرو» وذلك بعد استئذان الخليفة الراشد «عمر بن الخطاب»، وبمنتهى السرعة وصل المسلمون إلى المدينة فوجدوا أن الفرس قد بالغوا في تحصينها، حيث أحاطوها بخندق مائي متسع وعميق، وزرعوا حول المدينة حقولاً من حسك الحديد لإعاقة خيل المسلمين عن التقدم، ولمس المسلمون الاستماتة الدفاعية الكبيرة عند الفرس، فضربوا على المدينة حصارًا شديدًا استطال حتى جاوز سبعة شهور وهي أطول مدة حاصر المسلمون فيها مدينة بالعراق، وخلال هذه الفترة كان الفرس يخرجون للهجوم على المسلمين، حتى إنهم قد زاحفوا المسلمين أثناء هذا الحصار ثمانين زحفًا ولكن المسلمين أحبطوها كلها بمنتهى الشجاعة والثبات، ومع طول الحصار طلب «هاشم المرقال» من القائد العام «سعد بن أبي وقاص» إرسال إمدادات جديدة.

ومع طول الحصار وشدته وثبات المسلمين وإصرارهم على فتح المدينة، قرر الفرس الخروج بكامل قواتهم وهي زيادة عن مائة وخمسين ألفًا من المقاتلين، والاشتباك مع المسلمين في معركة واحدة وفاصلة، وقد وضع لهم «مهران» خطة ذكية تقوم على فكرة التناوب على قتال المسلمين فجزء يحارب والآخر يستريح، ثم يتم التبادل بينهم حتى يرهقوا المسلمين في قتال مستمر.

وفي صباح يوم الأحد 15 من ذي القعدة سنة 16هـ خرج الفرس بأعداد ضخمة من المدينة وأنشبوا القتال مع المسلمين بمنتهى الضراوة، وقابلهم المسلمون بضراوة أشد وأنكى، ومع تطبيق خطة الفرس بدأ التعب والإرهاق يحل بالمسلمين، وهذا الأمر أخذ يؤثر على نفسيتهم وشدتهم في القتال، وهنا برز دور البطل العظيم الذي لم ينل حظه من الشهرة والمعرفة عند المسلمين وهو «القعقاع بن عمرو» إذ وقف بين الصفوف يحرض المسلمين على الثبات ومواصلة القتال، ثم قام بخطوة عبقرية في القتال، إذ كان الليل على وشك الحلول، فضغط بسرية من خلاصة الفرسان على مؤخرة الفرس المنسحبين لدخول المدينة، ليتمكن بذلك من السيطرة على الخندق وبالتالي يمنع باقي الفرس من العودة لتحصينات المدينة، ثم نادى في المسلمين «أين أيها المسلمون؟ هذا أميركم ـ يعني المرقال ـ على باب خندقهم، فأقبلوا عليه ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله»، فأثار حمية المسلمين ونخوة العرب التي تمنع العربي والمسلم من ترك أخيه وقائده ويتخاذل عن نصرته، فشد المسلمون بكل قوة على الفرس حتى وصلوا إلى الخندق وصدموا الفرس صدمة هائلة أزالوهم بها عن مواقعهم.

عندها وقع الفرس في مأزق خطير، إذ أصبحوا عاجزين عن العودة للمدينة إلا إذا تغلبوا على المسلمين فدار قتال ليلي شديد الضراوة، شبيه بليلة الهرير في القادسية، وأثناء القتال وصلت الإمدادات التي أرسلها سعد لأرض المعركة فاشتد عضد المسلمين، واضطرب الفرس بشدة ودخلت خيولهم في حسك الحديد الذي نصبوه أصلاً لخيل المسلمين فاضطروا للنزول من على الخيل والقتال مترجلين، وكان هذا أوان هلاكهم، حيث طحنهم المسلمون طحنًا شديدًا وأفنوهم عن بكرة أبيهم، حتى بلغ قتلى الفرس مائة ألف قتيل، وجللت جثثهم الساحات أمام المدينة، لذلك سميت المدينة بعد ذلك «جلولاء» لما جللها من قتلى الفرس.

 ([1]) راجع: تاريخ الطبري، الكامل في التاريخ، البداية والنهاية، القادسية وفتوح العراق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين