معركة بدر بعيون شامية

قراءة في تفسير الفخر الرازي

الدكتور ماجد الدرويش
الموضع الوحيد الذي ذكرت فيه معركة بدر باسمها على سبيل الامتنان من الله تعالى على المؤمنين هي في سورة آل عمران وفي سياق الكلام عن معركة أحد، والذي يقرأ الآيات بتمعن سيجد أن الأمر يؤول لتمحيص النفوس وفرز الصادقين عن الكاذبين، ففَرْقٌ بين من يتوكل على الله تعالى مُسَلِّما لأقداره، وبين من يتواكل يريد عرض الحياة الدنيا، ودونكم بيان ذلك من كلام الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى:
قال الله تعالى: ﴿ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور﴾.
يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى: "إنه تعالى لما وعد بنصر المؤمنين على الكافرين، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بإزالة الخوف عن المؤمنين، بيّن في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهمليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين".انتهى.
لقد جعل الله تعالى إزالة الخوف من نفوس المؤمنين مقدمة لنصرهم على الكافرين. فأبشروا يا أبطال الشام، يا من نزع الله تعالى الخوف من قلوبكم وصدوركم، أبشروا فبإذن الله تعالى فإن ذهاب الخوف مقدمة لانتصاركم.
وفي معرض تعداده لفوائد النعاس الذي أنزله الله على المؤمنين يوم بدر ويوم أحد، قال:
"ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى".انتهى
فبقاء الثورة ملتهبة مع حرص الأعداء على قتل مشعليها فيه إشارة إلى حفظ الله تعالى وعصمته لهذه الثور ة المباركة.
ذكرت الآية طائفتين: الأولى غشيها النعاس، وهم المؤمنون بالله تعالى وبرسوله، المطمئنون إلى وعد الله سبحانه، وطائفة أخرى كانت مع المؤمنين يوم أحد وكانت على النفاق، ووصفها الله تعالى بأنها قد أهمتها نفسها، وقد سبر الإمام الرازي أغوار نفوسهم، فقال: " هؤلاء هم المنافقون، عبد الله بنُ أُبَي ومُعَتِّب بن قشير وأصحابهما، كان همهم خلاصَ أنفسهم، .. فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم، وقيل: المؤمنونكان همهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإخوانَهم من المؤمنين، والمنافقون كان همُّهم أنفسهم، وتحقيق القول فيه: أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقُه فيه، صار غافلا عما سواه، فلما كان أحبَّ الأشياء إلى الإنسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها، فهذا هو المراد من قوله: أهمتهم أنفسهم، وذلك لأن أسباب الخوف- وهي قصد الأعداء- كانت حاصلة، والدافع لذلك- وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله- ما كان معتبرا عندهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم".انتهى.
وهذا يعطينا اليوم فكرة عن صدق هؤلاء المنتفضين الثائرين الذين ذهلوا عن أنفسهم في سبيل حريتهم، فلو كانت تهمهم أنفسهم لما استرخصوها في سبيل الله تعالى، ولو كانوا طلاب دنيا لما أقدموا على الموت ليهب الله تعالى لهم الحياة.
ومن علامات الخوف والجبن والحرص على النفس البحث عما يظنه المثبطون أعذارا لعدم الخروخ ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيا اقعدوا مع القاعدين ﴾.
البعض ينظر إلى قضية الحق والباطل بمنظار الخوف والركون إلى الدنيا وحب السلامة، بل ويردد مقولة ( سلطان غشوم خير من فتنة تدوم )، ولكنه لم ينظر إليها من جانب القضاء والقدر، ومن جانب إرادة الله الغالبة. فالمنافقون قالوا:﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ﴾، والقائل ابن أبي سلول حيث أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة، فلما حصل ما حصل وجد فرصة للشماتة بصيغة المعاتبة، وقد أبدع الإمام الرازي في بيان حال هؤلاء، فذكر أوصافهم التي تدل على مواقفهم ونفوسهم، فقال:
" الصفة الأولى: من صفاتهم قوله تعالى: ﴿يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية﴾، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذا الظن احتمالان: أحدهما: وهو الأظهر: هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمدٌ محقا في دعواه لما سُلِّطَ الكفارُ عليه، وهذا ظن فاسد.أما على قول أهل السنة والجماعة، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، فإن النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى، بل له الأمر والنهي كيفشاء بحكم الإلهية.
وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم، بحيث يقهر الكافر المسلم، حكم خفية وألطاف مرعية، فإن الدنيا دار الامتحان والابتلاء، ووجوه المصالح مستورة عن العقول، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين.قال القفال: لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، بل الإنسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق، ومن المحق للمبطل، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق..." . انتهى
هذا كلام دقيق للغاية في حقيقة الإيمان والتوكل يحتاج إلى وقفات كتلك التي عودنا عليها شيخنا البوطي، فأين تلك الوقفات وأين ما عودتنا؟
ثم ذكر صفة ثانية لأهل النفاق، فقال: " الصفة الثانية: من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى: ﴿يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله﴾.واعلم أن قوله:﴿هل لنا من الأمر من شيء﴾حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها، وهو يحتمل وجوها: الأول: أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم، فغضب عبد الله بن أبي من ذلك، فقال عصاني وأطاع الولدان، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبد الله بن أبي قيل له: قتل بنو الخزرج، فقال: هل لنا من الأمر من شيء، يعني أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لو أطاعونا ما قتلوا﴾ والمعنى: هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الإنكار".انتهى.
أظن أن هذا الكلام أوضح من أن يفسر لطالب علم بله لعالم، فلم الركون إلى الذين ظلموا أنفسهم؟ إن كثرة القتل في الأبرياء دليل على ظلم الحاكم لا على عمالة الأبرياء! لذلك قال الإمام الفخر الرازي مبينا الحكمة من مواقف المنافقين وعرضها في السياق بأن "الغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار".انتهى
وإن كانت لا توجد حرب اليوم لأنه لا يوجد قتال من طرفين، إلا أنه يبقى أن ظهور مواقف المثبطين تدفع إلى الثبات على الحق المبين، لأن الأمر بيد الله تعالى. و"الوجه في تقرير هذا الجواب– يقول الرازي - ما بيَّنّا: أنا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الإماتة والإحياء، والفقر والإغناء، والسراء والضراء.وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح- وهم المعتزلة -، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه". انتهى.
والله إن هذا الكلام كالبلسم للنفوس، فكيف يذهل عنه من عاش مع صاحبه دهرا، وسقانا من معينه نهرا؟!! ولعل في كلام الإمام الرازي الآتي ما يجيب عن هذا التساؤل، حيث قال: " واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: هل لنا من الأمر من شيء، وهذا الكلام محتمل، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين، وكان غرضه منه إظهار الشفقة، وإنه متى يكون الفرج؟ ومن أين تحصل النصرة؟ ولعله كان من المنافقين، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم".انتهى.
لذلك فنحن نميز بين المؤمن المشفق على دماء الأحرار، وبين المنافق الذي يمكر مكر الليل والنهار، والجواب هو ما أورده الإمام الرازي رحمه الله تعالى، من قوله: " واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول من الجواب: قوله: ﴿قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم﴾، والمعنى: أن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات، لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه إلى إيجاد الله تعالى، فلو لم يوجد لانقلبت قدرته عجزا، وكل ذلك محال. ومما يدل على تحقيق الوجوب، كما قررنا، قوله: ﴿الذين كتب عليهم القتل﴾، وهذه الكلمة تفيد الوجوب، فإن هذه الكلمة في قوله: ﴿كتب عليكم الصيام﴾﴿كتب عليكم القصاص﴾، تفيد وجوب الفعل، وهاهنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق.
ثم نقول: للمفسرين فيه قولان: الأول: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد، والثاني: كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم.
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة: قوله: ﴿وليبتلي الله ما في صدوركم﴾وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة، ولو كان الأمر إليهم، لما خرجوا إليها، فقال تعالى: بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة: أن يتميز الموافق من المنافق، وفي المثل المشهور: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين ...
والوجه الثالث في الجواب: قوله: ﴿وليمحص ما في قلوبكم﴾وفيه وجهان: أحدهما: أن هذهالواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات، والثاني: أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات، وذَكَرَ في الابتلاء الصدورَ، وفي التمحيص القلوبَ، وفيه بحث، ثم قال: (والله عليم بذات الصدور).واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور، لأنها حالَّةٌ فيها مصاحبة لها، وصاحبُ الشيء ذُوْه وصاحبته ذاته، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور، أو غير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات، وإنما ابتلاهم: إما لمحض الإلهية، أو للاستصلاح".
وفي الحالتين نحن مسلمون لمحض الإلهية مقتنعون بالاستصلاح، فالواقع الذي نعيشه لا يمكن أن يقبل الاستمرار عليه، وإذا كان هذا قضاء الله تعالى فينا فإننا مسَلِّمون، وإن كان ذلك سبيلا للاستصلاح فنحن له طالبون ومريدون. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين