معركة الحجاب صراع مستمر في تركيا
بقلم م: طه عوني
أشعلت قضية الحجاب فتيل أزمة في الساحة السياسية التركية، وذلك بعد أشهر من الفوز الساحق الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية التي جرت العام الماضي؛ وها هي مشكلة الحجاب تعود من جديد إلى الواجهة في تركيا لتجدد الصراع بين حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية وبين العلمانيين، ولكن هذه المرة الوضع مختلف؛ حيث إن حزب العدالة والتنمية الحاكم يسيطر إلى حدٍّ ما على المشهد السياسي التركي.
ومن الواضح أنّ القرار الذي أصدرته المحكمة الدستورية برفض التعديل البرلماني لارتداء الحجاب في الجامعات قضى على آخر أمل للمحجّبات باستكمال تعليمهنّ الجامعيّ بعد أن عِشنَ أحلام يقظة لأيام معدودة آملات أن تنصفهنّ المحكمة وتُعيد لهنّ حقوقهنّ الطبيعية في التعليم كسائر المواطنين.
ويؤكِّد الخبراء بأنّ هذا القرار لم يكن مفاجئاً، بل كان محسوماً سلفاً؛ حيث إن قضاة المحكمة الدستورية الأحد عشر هم من العلمانيين المتشدِّدين، وقضية "الحجاب" تعتبر من المسائل الحساسة في بلد ذي أكثرية مسلمة لكنه خاضع لسيطرة العلمانيين.
برزت هذه المشكلة مُجدّداً بشكل واضح بعد انتخاب عبد الله غول رئيساً للجمهورية التركية. ورغم أن منع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة بدأ عام 1998، إلا أن النقاش لم يتوقف أبداً، بل اكتسب قوة اندفاع مع وصول السيدة الأولى التي تغطي رأسها "خير النساء غول" إلى القصر الجمهوري الذي كان حِكراً على العلمانيين منذ أيام مؤسّس الجمهورية التركية العلمانية.
هذا وقد أصبحت قضية الحجاب المنعطف الذي تقف عنده هُوية تركيا الحديثة بين التغريب والذوبان في الثقافة الغربية أوالتمسك بالهوية الإسلامية.
تاريخ في منع الحجاب
منذ ظهور الطاغية كمال أتاتورك على الساحة التركية وإعلانه عن ثورته الاجتماعية "ثورة القيافة" وإطلاقه لمجموعة فرامانات (قوانين) بمنع ارتداء السروال التقليدي وغطاء الرأس للجنسيْن داعياً الناس لتقليد أهل الغرب شكلاً وروحاً في محاولة حثيثة منه لغَرْبنة تركيا الإسلامية الشرقية، اعتبر العلمانيون الحجاب بمثابة إعلان دعم للأصولية الإسلامية المخالفة للنظام الذي أقامه أتاتورك، وبدأ سريان حظر الحجاب بالفعل منذ عام 1925 ونظمته المادة العاشرة من الدستور الخاصة بالمَلْبس والزِّي في مؤسسات الدولة، ومع ذلك فإنه حتى عام 1989 لم يكن ممنوعاً دخول المحجّبات الجامعة.
ويرجع حظر ارتداء الحجاب في الجامعات إلى الثمانينيات، لكن جرى التشديد عليه عام 1997عندما أطاح جنرالات الجيش التركي -بدعم شعبيّ- بحكومة نجم الدين أربكان الذي كان يتزعّم حزب الرفاه الإسلامي-ثم حزب “السعادة الإسلامي”الآن- الذي يعتبر الأب الروحي للحركات الإسلامية التركية. وكان عام 1981 قد شهد إصدار نظام الحكم العسكري لقانون يمنع ارتداء الحجاب في الجامعات التركية، ولكن “تورغوت أوزال” رئيس الوزراء المنتخب تراجع عن هذا القانون عام 1983. ثم أبطلته المحكمة الدستورية بإصدار قانون 1989 الذي يمنع دخول المحجبات إلى الجامعات. وقد تم التراجع عن هذا القانون سنة 1991م، ولكن لم يمنع هذا من استمرار الحظر في جامعات كثيرة من قِبَل البرلمان والمحكمة الدستورية.
وأعاد الرئيس التركي الأسبق «سليمان ديمريل» إصدار قرار عام 1997، ضمن حزمة الحملة المضادة للتيار الإسلامي أثناء ولاية حكومة «مسعود يلماز»، بمنع دخول المحجّبات المؤسّسات التعليمية أو الوَزارات والمصالح الرسمية التركية عندما أجبر الجيش رئيس الوزراء نَجم الدين أربكان على تقديم استقالته.
كما منع القرار المحجّبات من التّردد على الأندية والمؤسّسات الاجتماعية التابعة للجيش التركي مثلما منع الصحفيات المحجّبات من دخول أيّ مؤسسة تابعة للجيش التركي.
وتعرضت مئات الموظفات للفصل أو الإجبار على الاستقالة بسبب الحجاب. ويفرض قانون ارتداء القبعة وإلغاء ارتداء الطربوش والطاقية على المرأة العاملة بدواوين الدولة والحكومة والمدرسة والجامعة أيضاً ارتداء التنورة الطويلة والبلوزة أو الجاكيت أو البدلة النسائية، وهو القانون نفسه الذي استند إليه مجلس الأمن القومي في تركيا لإسقاط العضوية البرلمانية عن النائبة المحجبة «مروة قاوقجي» عام 1999؛ فخلال جلسة حلف اليمين بالبرلمان التركي للأعضاء الجُدد بعد انتخابات نيسان من العام نفسه أصرّ أعضاء الحكومة التركية الائتلافية حينها بزعامة «بولنت أجاويد» وأعضاء البرلمان من الحزب الديمقراطي اليساري على طرد «قاوقجي» التي فازت بمقعدها النيابي عن حزب الفضيلة، بحُجة منع القانون للمحجبات من دخول القاعة العامة للبرلمان، كما أسقط مجلس الوزراء التركي برئاسة «بولنت أجاويد» جنسيتها التركية.
ويُذكر أن حظر الحجاب في الجامعات التركية دفع المحجبات إما إلى الاستعانة بالشعر المستعار كما فعلت «كوبرا» ابنة رئيس الجمهورية عبد الله غول، أو إلى الدراسة خارج تركيا، أو إلـــى خلـع الحجاب بمجرد دخول الجامعة والعودة إلى ارتدائه بعد الخروج منها، أو إلى عدم دخول الجامعة أصلاً كما تفعل بعض الأسر المحافظة هناك.
سبب الخلاف حول مسألة الحجاب
يشيرالمراقبون للأوضاع في تركيا إلى أن الحجاب هناك لم يعد قضية شرعية، بل تحوّل إلى مواجهة سياسية بين مَنْ يرَوْن فيه رمزاً سياسياً وبين مَن يرَوْنه أحد متطلّبات الإيمان. فالجهات العلمانية ترى في حجاب الطالبات الجامعيات والثانويات مظهراً إسلامياً وبمثابة إعلان دعم للأصولية الإسلامية لا يتلاءم -علـى حدِّ زعمهم- مع علمانية الدولة، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من الأتراك مسلمون! بينما تدافع المؤسسة العسكرية التي تتمتع بنفوذٍ واسع بقوة عن فصل الهوية العلمانية العامة للدولة عن الممارسات الدينية الخاصة، وتحرص على إظهار هذا الفصل أمام العالم.
خلاصة الحديث
لقد تحول الحجاب في تركيا -الذي يعتبر من المقدسات الإسلامية ومن الواجبات الشرعية التي فرضها الله على المرأة المسلمة، ومن آكَد حقوقها القانونية- تحوّل إلى مسألة عقيمة، تحتبس بداخلها الأصوات المطالبة برفعه، تحت اسم الحفاظ على «العلمانية».
ويرى المراقبون السياسيون الأتراك أن مسألة الحجاب في تركيا - على ضوء التداعيات والمعطيات الجديدة - أصبحت أكثر تعقيداً وحساسية، وستجعل الأيام القادمة أشد سخونة في تاريخ حكومة أردوغان
مجلة منبر الداعيات عدد 128
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول