معركة الجولاني في السياق الإستراتيجي

 

-1-

 لعل الضربة الأمريكية الهزيلة الأخيرة لم ثبت أكثر ممّا كان مثبَتاً أصلاً، وهو أن اللاعبَين الكبيرَين، أمريكا وروسيا، قد توافقا على تقسيم سوريا وترسيم حدود السيطرة والنفوذ. وقد لا نجانب الصواب لو قلنا: إن سوريا كلها باتت داخلة في التوافق المذكور باستثناء منطقتين ما تزالان محلّ تنازع ولمّا يُحسَم مصيرهما النهائي: إدلب وامتدادها الطبيعي في ريف حماة الشمالي، والشريط الحدودي مع تركيا، من المالكية إلى عين العرب.

 فأما الشريط فإن تركيا تتنازعه مع أمريكا، وهي تدرك جيداً أنها لن تستطيع إحباط المشروع الأمريكي ومنع الإقليم الكردي بالكامل، فاقتصر طموحها على دفعه عن حدودها باتجاه الجنوب واستحداث "شريط عازل" بعمق بضع عشرات من الكيلومترات، من شأنه أن يصبح امتداداً لمناطق نفوذها في درع الفرات.

 أما إدلب فإنها ستكون ساحة صراع تركي إيراني بالأساس، وقد شاهدنا "عيّنة" من هذا الصراع في الاشتباك المحدود الذي وقع في العيس والحاضر الشهرَ الماضي، عندما تقدمت قوة تركية صغيرة لإنشاء نقطة مراقبة في ريف حلب الجنوبي. وغالباً لن تتخلى إيران عن إدلب بسهولة، فهي تدرك أنها الخاسر الأكبر في التوافقات الدولية في سوريا وتسعى إلى استرجاع أكبر قدر من السيطرة والنفوذ.

 -2-

 لعل إدلب هي أكثر مناطق سوريا اضطراباً حالياً، وسوف تبقى كذلك خلال هذا العام، بل يُتوقَّع أن تهدأ سوريا كلها قريباً وينحصر الصراع هنا. وفيما يبدو للمراقب الظاهري أن ما يجري فيها منذ بعض الوقت هو اقتتال داخلي فإن الواقع أعقد وأعمق من ذلك بكثير، فالجولاني يلعب لعبة كبيرة خطيرة يُخيَّل إليه أنه اللاعب المتحكم فيها، فيما هو في الحقيقة أهم أدواتها التي يلعب بها الأعداء.

 ربما كان الجولاني عميلاً مباشراً زرعه نظام الأسد في الثورة، وربما كان عميلاً غير مباشر استغله الأعداء، لا فرق من حيث النتيجة، فهو براغماتي انتهازي لا مبدأ له ولا وازع من خلق أو دين، وهو يسعى إلى امتلاك أوراق قوة يفرض من خلالها نفسَه لاعباً محورياً في سوريا، ومن أجل ذلك استمات لتدمير الفصائل والسيطرة على المعابر وتكريس نفسه حارساً وحيداً لكفريا والفوعة وملكاً غير متوَّج على الشمال المحرر.

 وأخيراً شعر أنه بات قريباً من تحقيق حلمه بعدما قهر خصمه اللدود ومنافسه الأكبر، حركة أحرار الشام، فأرسل مندوبيه في سفارات إلى الدول الأوربية محاولاً تقديم نفسه شريكاً في الحل السياسي القادم، وبقي عليه أمر واحد: إصلاح علاقته بتركيا بعد وقت طويل من الاستعداء والتكفير.

 -3-

 استغلّ الجولاني رغبة تركيا بدخولٍ آمنٍ إلى إدلب يجنّبها المأساة التي وقعت في الباب، حينما تترّست داعش بالمدنيين فتحولت المعركة معها لحرب مدن وشوارع ذات كلفة بشرية عالية، فطرح نفسه ضامناً لهذا الدخول. من هنا جاءت التفاهمات الأخيرة بين تركيا والجولاني، التي نجحت فيها تركيا بتحييد جبهة النصرة ونشر نقاط المراقبة في إدلب وشمال حماة بسلام.

 وقد أدرك الجولاني أن تفاهم الأتراك معه مؤقت وأنه سيفقد أهميته مع انتشار الجيش التركي في إدلب وانتهاء عملية غصن الزيتون، فأراد استباق النتائج المتوقعة من كلا العمليتين والاحتفاظ بأوراق قوة تساعده على فرض نفسه على الأتراك، ولا بد أنه أدرك أن مناطق الزنكي هي مفتاح النفوذ الجديد، وعندها بدأ هجومه الغادر الكبير على ريف حلب الغربي في العشرين من شباط الماضي.

 ولعلّه توقع نهاية سريعة ناجحة للعملية كما هو الشأن في مغامراته السابقة، إلا أن الصمود المدهش والرد الحازم الذي صدر عن تحالف فصائل الشمال (الزنكي والأحرار والصقور) أربك خططه وقلب حساباته رأساً على عقب، وبدا واضحاً أنه دخل مستنقعاً ما يزال يتخبط فيه حتى الآن.

 -4-

 هنا نصل إلى مفترق الطرق الذي سيحدد مصير إدلب، التي تشدّها تركيا من جهة ويشدها النظام وحلفاؤه من جهة أخرى؛ الأولى تسعى إلى تحويلها لمنطقة آمنة وإلحاقها بمناطق درع الفرات وغصن الزيتون، والآخرون يريدون القضاء على فصائلها وإعادتها لسيطرة النظام. ليس أيٌّ من هذين الطريقين هو الخيار النموذجي للثورة، ولكنْ ليس من الصعب -قطعاً- ترجيحُ أحدهما على الآخر على قاعدة دفع الضرر الأكبر بالأصغر، فأرضٌ آمنة نضحّي فيها بقدر من قرارنا الوطني المستقل خيرٌ من حرقها وسقوطها في يد الأعداء.

 من الواضح أن النظام وروسيا وإيران يُعدّون العدة لإطلاق معركة إدلب، وقد لا نستطيع معرفة توقيت المعركة بدقة، ولكننا نستطيع قراءة الإرهاصات: قبل أيام سمّى علي أكبر ولايتي إدلب بالاسم قائلاً إنها ستكون الهدف التالي بعد "تحرير الغوطة"، ثم أعقبته تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، التي حذّر فيها من كارثة إنسانية في إدلب، مشدداً على أهمية تقرير مصيرها من خلال عملية سياسية تتضمن "نزع سلاح الميليشيات" كما قال! وفي الوقت نفسه بدأ الهجوم (المتوقَّع) على ريف حمص الشمالي.

 يمكننا قراءة هذه الإرهاصات كما يلي: ناطق باسم تحالف الأعداء يعلن عن اقتراب الغزو، وناطق باسم ما يسمى "المجتمع الدولي" يضيء الإشارة الخضراء، والهجوم على الريف الشمالي ينبئ ببداية العد التنازلي لعملية إدلب الكبرى. ماذا يمكننا أن نفعل؟

 -5-

 لقد ثبت بعد تجارب مريرة طويلة أن فصائلنا قادرة على تحرير الأرض ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بها إلى الأبد، لأسباب بعضها خارجي وأكثرها داخلي، وثبت أن الأراضي الوحيدة التي نَجَتْ من الضياع واكتسبت استقراراً شبه نهائي هي الأراضي التي دخلت تحت الحماية التركية، وكل القراءات لمعركة إدلب القادمة تشير إلى أنها معركة تركية إيرانية ستقرر نتيجتُها مصيرَ إدلب، وبقيَت المعلومة الأخيرة الجوهرية التي أنشأتُ المقالة من أجلها:

 إن سيطرة جبهة النصرة على إدلب ستعجّل بغزو الأعداء، وفي غياب الحماية التركية فإن قدرة إدلب على الصمود الطويل صعبة جداً، والحماية التركية لا يمكن توفيرها إلا بانحسار السواد (النصرة والقاعدة بكل أسمائها وراياتها) أولاً، ثم بذوبان الفصائل كلها في تكتل عسكري احترافي شبيه بتكتل فصائل درع الفرات.

 فصارت "خطة الطريق" التي ستنقذ إدلب -بأمر الله- هي إنهاء الحالة الفصائلية لصالح كيان ثوري واحد، والتقارب مع الأتراك والتنسيق معهم في الخطوات الآتية، والتصدي لعدوان جبهة النصرة وكسر شوكتها وإخراجها هي وحلفائها من الأراضي المحررة.

 أسأل الله أن ينصر فصائل الثورة على عصابة الجولاني، وأن يردّ عن إدلب كل خطر وبلاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين