معرفة الحق في فِطر الخلق

 

روى الإمامُ أحمد عن وابصة بن مَعبد قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدعَ شيئاً من البرِّ والإثم إلا سألته عنه، فقال لي: ادنُ يا وابصة، فدنوتُ منه حتى مست ركبتي ركبته، فقال: يا وابصة، أخبرك ما جئت تسأل عنه وتسألني! قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال: جئت تسألني عن البر والإثم، قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكت بها في صدري، ويقول: يا وابصة، استفتِ قلبك: البر ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب، والإثمُ ما حاكَ في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوك.

إنَّ اللهَ فطرَ عباده على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركَّز في الطباع محبَّة ذلك، والنفور عن ضده، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إن شئتم: [فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ] {الرُّوم:30}. [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]

فالقلبُ الذي دخله نورُ الإيمان وانشرح به وانفسح، سكنَ للحق، واطمأنَّ به، ونفرَ عن الباطل وكرهه ولا يقبله.

روى أبو داود عن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (تلق الحق إن سمعته فإن على الحق نوراً). 

والبر يطلق باعتبارين:

أحدهما: باعتبار مُعاملة الخلق بالإحسان إليهم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: البر شيء هَيِّن، وجه طلق، وكلام لين، وإذا قُرن البر بالتقوى كما في قوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] {المائدة:2}. فقد يكون المراد بالبر مُعاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى مُعاملة الحق بفعل طاعته، واجتناب مُحرَّماته، وقد يُراد بالبر: فعل الواجبات، وبالتقوى: اجتناب المحرمات، وقوله تعالى: [وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ] {المائدة:2}. قد يُراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظلم الخلق.

والمعنى الثاني من مَعنى البر: أن يُراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، كقوله تعالى: [وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}.

فالبرُّ بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة: كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والطاعات الظاهرة: كإنفاق الأموال فيما يُحبُّه الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، والوفاءِ بالعهد، والصبرِ على الأقدار: كالمرض والفقر، وعلى الطاعات: كالصبر على لقاء العدو.

فدلَّ حديثُ وابصة رضي الله عنه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما سكنَ إليه القلب، وانشرحَ إليه الصدر، فهو البرُّ والحلال، وما كان خلاف ذلك فهو الإثم والحرام.

أما الإثم: فهو ما أثَّر في الصدر حَرجاً وضيقاً، وقلقاً واضطراباً، فلم ينشرحْ له الصدر، ولم تسكنْ إليه النفس.

والذي يُشير إليه الحديث أنَّ الإنسان يُلاحظ في أعماق نفسه قوَّة تحذره فعل الشر إذا سوَّلت له نفسه، وتحاول أن تصدَّه عن فعله، فإذا هو أصرَّ على عمله، وبدأ في فعله، أحسَّ بعدم الارتياح أثناء الفعل، لعصيانه تلك القوة، حتى إذا ما أتمَّ العمل أخذت هذه القوة تُوبِّخه وتؤنِّبه، وأخذ هو يندم على ما فعل.

كذلك يحسُّ أنَّ هذه القوة الباطنة تأمره بفعل الواجب وأداء ما يُطالب به، تلك القوة الباطنة الآمرة الناهية هي الضمير.

فالضمير هو تلك القوة النفسيَّة التي يصحُّ أن تسمى الغريزة الدينيَّة، وأول ما تبدو تلك الغريزة حينما نشعر بحرب في صدورنا بين الميول العُليا والميول السُّفلى، أعني بين الروح والمادَّة، وهذا الشعور هو مَنبع الديانات، وسر الشرائع، فإنَّ الدين إنما يُبنى على مُحاسبة النفس، وتطهير السرائر، ليميز الإنسان بين الحق والباطل، والخبيث والطيب.

قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] {الشمس:7-10}. وقال تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}.أي: طريق الخير وطريق الشر.

فلن يتمتَّع المرء بأشرفِ أنواع الحريَّة الروحانيَّة، حتى يكون له في باطنِه نور من وجدان حيّ، وضميرٍ يَقِظ، يَجري في كل أعماله على حكمه، مَسروراً بذلك راضياً، لا مُرغماً كارهاً.

قال تعالى: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122}.

أما الذين لا ضمائر لهم بأن أطفأوا نور الله في باطنهم، فأظلمت وجداناتهم، وأعتمت سَرائرهم، فأولئك يركبون مطيَّة الهوى، ولا يصدرون في أعمالهم إلا عن باعث من الأثَرة وحبِّ النفس.

فالآلام التي تُقاسيها الإنسانيَّة في عصرنا، والشقاء الذي تتجرَّعه الشعوب في حياتها، إن هي إلا وليدة الضمائر الخاوية، والوجدانات المُعْتمة، حيث جمحت النفوس من الاستماع إلى صوت الضمير، وخَوَت الصدور من العواطف النبيلة، وغاض فيها الحب والصدق، وترعرع بين جنباتها الخداع والجشع.

ولا منجاة من كل هذا إلا أن تتيقَّظ الضمائر، وتشرق الوجدانات، وتحلَّ المحبَّة على البغضاء، والقناعة محل الجشع، والإنصاف على الاعتداء، والعدل محل الجَوْر، والاعتراف بالحقوق محل الاغتصاب.

 

عند ذلك فقط ترجع للإنسانية سعادتها، وإلى النفوس هدوءها، وإلى الحياة طمأنينتها.

فالمؤمن الحق هو الذي يُصغي إلى ضميره إذا ناداه، ويجيب داعي الحق إذا هتف به، فلا يغترَّ بحكم قاضٍ إذا كان هو يعلم أنَّ الحق غيره، ولا يفرح بفتوى مُفتٍ ما دام هو وَاثقاً من أنها لم تُصادف الصواب، فإنَّ القاضي إنَّما يحكم بما بان له من أدلَّة، والمفتي إنما يُفتي بما قُدِّم له، من وقائع، أما حقيقة الواقع فلا يعلمها إلا صاحبها.

روى البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سمع خصومة بباب حُجرته فخرج إليهم فقال: (إنَّما أنا بشرٌ وإنكم تَخْتصمون إليَّ، فلعل بعضَكم أن يكون أبلغَ بحجَّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحقِّ مسلم، فإنَّما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها).

وروى الإمام أحمد والبزَّار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنَّه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه).

فالصدقُ يتميَّزُ من الكذب بسكون القلب إليه ومعرفته، وبنفوره عن الكذب وإنكاره.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد 5 (السنة 11، 1377هـ 1957م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين