معاني الحج وحِكَمه

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد :

فيا إخوة الإيمان ، نحن في موسم الحج ، والحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة ، وهو عبادة مالية، بدنية ، شعائرية، وهو سفر خاص ورحلة فريدة ، يرحل فيها المسلم إلى البلد الحرام، ليطوف ببيت الله الحرام الذي جعله الله رمزاً لتوحيد الله، ووحدة المسلمين، ففرض عليهم أن يستقبلوه كل يوم خمس مرات، كما فرض عليهم – في حال الاستطاعة - أن يحجوا إليه مرة واحدة على الأقل، ويطوف به بنفسه ويملأ منه عينه وقلبه ... إلا أنه يستحب له يكرر الزيارة عندما يكون مستطيعاً حتى لايكون هاجراً لبيت الله تعالى:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

قال الله: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم.

ومن حج بمال حرام، ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى: أن لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك.

وبما أن مشقة الحج كبيرة وتكاليفه باهظة فإن أجره كبير يتناسب مع مشقته ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حج لله عز وجل، فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رجع كيوم وَلَدَتْهُ أمُّه .

وقال : تَابِعوا بين الحج والعمرة، فإنهما يَنْفِيان الذُّنُوبَ والفَقْرَ، كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، ولَيسَ لِحجَّة مبرورة ثواب إلا الجنة .

من حِكم الحج :

يبدو الحج لأول وهلة أنه نوع من العبادات الوثنية ؛ فهو طواف بحجارة ، وسعي بين حجارة ورمي للحجارة ... إلا أن الأمر في حقيقته مختلف جداً ، فالحج - إخوة الإيمان - تلبيته لدعوة الله وبرهان على صدق الإيمان به ومحبته، والرغبة في رضوانه .

وبنظرة فاحصة نتلمس بها بعض معاني الحج وحكمه وأسراره سنجد أنه عبادة جليلة أبعد ماتكون عن الوثنية .. فبعد أن يُحرِم الحاج من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرد إلى الله عز وجل، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك... وكأنه يجيب دعوة الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً... ودعوته لنبيه أن ينادي في الناس بالحج : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق .

فلبس ملابس الإحرام التي أشبه ماتكون بكفن الميت إشارة إلى العزوف عن الدنيا والتعلق بالاخرة لأننا سنخرج من الدنيا بهذا الكفن لانأخذ منها إلا العمل؛ صالحاً كان أو غير صالح.. والطواف بالبيت وباتجاه معاكس لعقارب الساعة ليبقى القلب محاذياً لبيت الله الحرام وكأننا نقول : يارب إن قلبي متعلق ببيتك ، قاصد رضاك ، ثابت على دينك ، راج رحمتك ، أسير على خطى حبيبك محمد عليه الصلاة والسلام.. وعندما يضع يده على الحجر الأسود أو يقبله فكأنما يبايع رسول الله وبالتالي فهو يبايع الله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ... علماً أن كل مافي الكون يدور ويطوف في هذا الاتجاه .

هلم إلي عبدي، وذق حلاوة محبتي... هلم ياعبدي، لتسعد بمناجاتي في أقدس مكان عرفته الأرض.

أما السعي بين الصفا والمروة فكأنهما كفتا ميزان يوم القيامة ، فهو يتردد بينهما مشفقاً أن يخف ميزانه فيردى .

وأما الوقوف بعرفات فهو أشبه مايكون بالموقف يوم القيامة... فالكل عار عن الدنيا متعلق قلبه بالله شاخص ببصره إلى الأعلى ؛ ينتظر النتيجة من عند الله ، يرجو رحمته ويخاف عذابه .

وأما رمي الجمرات فهي تمثل إعلان العداوة للشيطان ورمي وجهه بالحجارة .. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله عز وجل. 
وعلى هذا: فلو عاد الحاج إلى بلده، وعاد إلى معصية الله يكون الشيطان هو الذي رجمه، إما أن ترجمه بطاعتك، وإما أن أن يكون الشيطان قد رجمك بسبب معصيتك لله .

وحينما يتوجه الحاج لسوق الهدي ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله عز وجل، تعبيراً عن شكره لله تعالى، تعبيراً عن شكره لنعمة الهدى التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة ورغبة في إرضاء الله عز وجل، وتضحية بكل غال ورخيص، ونفس ونفيس في سبيل مرضاة الله رب العالمين، بل فداؤك من العذاب كما كانت فداء لإسماعيل من الذبح ، وقدمها بسماحة نفس مخلصاً لله تعالى ، قال تعالى :﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾

ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه المعاني السامية، ثم يطوف طواف الوداع لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صح أن الحج رحلة إلى الله ، فإنه يصح أيضاً أنها الرحلة قبل الأخيرة لتجعل الرحلة الأخيرة مفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

ومن علامات قبول الحج أن يرجع الحاج أحسن مما كان قبل الحج .

ونسأل الله تعالى أن يتقبل من الجميع الحج وسائر الطاعات والعبادات . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .والحمد لله رب العالمين .

 وكتبه : أبو معاذ عبد الرحيم طويل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين