معالم تربوية ومنهجية لضبط المسيرة الدعوية (1)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد؛ فإنّ واقعنا الدعويّ الداخليّ أسوأ بكثير من كيد الأعداء ومؤامراتهم، وبما لا يقاس، وأعداؤنا لم يبلغوا منّا ما بلغوا إلاّ باختلاف كلمتنا، وتفرّق صفّنا، واستغلال ما بيننا من خصومات تصل إلى درجة العداوة والبغضاء، والقطيعة والتدابر، والتنابز بالألقاب، والكيد الرخيص، الذي يتوسّل بما لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، وتستباح به كبائر الإثم.. والأمثلة على ذلك كثيرة حاضرة، لا تخفى على أيّ معايش للواقع، مكتوٍ بمآسيه ومواجعه..

 

والسبب في نظري القاصر واجتهادي يعود إلى نوعين من البلاء، ابتليت بهما الساحة الشرعيّة والدعويّة:

 

ـ الأوّل: غياب الضوابط الشرعيّة المَنهجيّة أو ضعفها، وهي التي يتوخّى منها أن تضبط الاجتهاد الشرعيّ، أو الدعويّ بقواعد الشرع وأصوله.. ويدخل في ذلك تصدّي من ليس مؤهّلاً للقول في دين الله بالفتوى بغير علم، والكلام فيما لا يحسن.

 

ـ والسبب الثاني: تلبيس الشيطان على بعض الدعاة وطلبة العلم، واختلاط الدوافع النفسيّة، وعلل النفس ورعوناتها بدافع الانتصار للحقّ، والغيرة على حرمات دين الله، والانتصار لله، والغضب لله..

 

وهذا السبب أخطر من الأوّل وأدهى، لأنّه نفسيّ خلقيّ خفيّ، إذ لا يمكن لأحد أن يتّهم به أحداً، مهما رأى من مؤشّراته الظاهرة، وقرائنه المُعبّرة، لأنّنا نقع بذلك فيما نحذّر منه، من اتّهام النيّات والمَقاصد، والتشكيك بالدوافع..

 

ومكر الشيطان لا يكتشفه إلاّ من كان من أهل البصيرة، والرسوخ في دين الله، وقد روي عن الحسن بن صالح رحمه الله أنّه قال: «إنّ الشيطان ليفتح للعبد تسعة وتسعين باباً من الخير يريد بها باباً من الشرّ».

 

    وهذا لا يمنع من التنبيه عليه على وجه العموم والتحذير من خطره، وهو يحتاج إلى بصيرة إيمانيّة ناقدة، متجرّدة عن الأهواء ومحاسبة للنفس صادقة، تكشف للإنسان بشفافية عن أدواء نفسه وعلله، وحقيقة دوافعه ومواقفه..

 

    وربّما كان للعالم الربّانيّ الناصح الذي تجتمع عليه القلوب قبل العقول، وتطمئنّ إلى نصحه وإرشاده، وحكمته وتوجيهه.. ربّما كان لمثل هذا العالم القول الفصل، والتنبيه المؤثّر، الذي تستجيب له النفوس وتطمئنّ..

 

    ونتيجة فَقد هذه المرجعيّة الحكيمة الجامعة عجّت الساحة العلميّة والدعويّة باجتهادات متنوّعة، وأخرى متضاربة، ممّن يملك مؤهّلاتها، ومن لا يملك، وحمل بعضهم على كلّ جديد، لأنّه يخالف ما كان عليه وألفه، وتجرّأ آخرون على الاجتهاد لمُواجهة المُستجدّات التي تفرض عليهم الحركة والمبادرة، ورأوا أنفسهم أهلاً لذلك.. وتفرّق الصفّ الواحد، والقلوب المُجتمعة، التي كانت على ما يشبه القلب الواحد..

 

    فهل من سبيل لتدارك هذا الخلل، وعلاج هذا الأمر الجلل؟ إنّ السبيل إلى ذلك في تقديري أن يتّفق الدعاة وطلبة العلم على ضوابط شرعيّة تربويّة، وأخرى منهجيّة، تجمع قلوبهم، وتحفظ مسيرتهم من التفرّق والاختلاف، وتكون أمراً يحتكم له، ويرجع إليه..

 

    ولقد تأكّدت لي من خلال هذا الواقع ضرورة أن يدلي المُؤمن بما يراه من الحقّ والنصح، حرصاً على صفاء القلوب، ووحدة الكلمة، واجتماع الصفّ.. وأنا أعلم أنّ مثل هذا الموضوع لا تفي بحقّه مقالة ولا مقالات، ولا يحيط به قلم كاتب واحد مهما بلغ من الفصاحة والبيان.. وحسبي تسليط الضوء على هذه الفريضة الغائبة المُسيّبة، وأن أدلي بدلو بين الدلاء، وأقدّم جهدي المُتواضع متطلّعاً إلى جهود غيري ومشاركتهم، من السادة العلماء، والدعاة النجباء، وما لا يدرك كلّه، فلا يترك قُلّه..

 

    وها أنا ذا أضع بين أيدي إخواني من الدعاة وطلبة العلم أهمّ ما أراه من معالم تربويّة ومنهجيّة لضبط المَسيرة الدعويّة وترشيدها، ولا أدّعي الكمال فيما أقول وأكتب، وإنّما أعرض ما عندي، وأتقبّل كلّ ما يرد عليه من نقد موضوعيّ هادف، وإضافة مفيدة، وأسأل الله جلّ وعلا أن يأخذ بنواصينا إليه، ويلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شرّ أنفسنا وأهوائنا، ومن شرّ الشيطان وأحابيله، إنّه أكرم مسؤول، وهو حسبي، ونعم الوكيل.

 

    أهمّ المَعالم التربويّة والمَنهجيّة لضبط المَسيرة الدعويّة وترشيدها:

 

    1 ـ علينا أن نحاسب أنفسنا، ونمحّص نيّاتنا، ونستشعر رقابة الله تعالى علينا، ونقف على حقيقة دوافعنا قبل أن نكتب ما نكتب، أو نقول ما نقول، وكم خدعت النفوس أصحابها، وزيّنت لهم الحظوظَ الدنيّة بزينة الحقّ، ولبّست عليهم الباطل! والله تعالى يقول: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ القَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14ــ15].

 

    وينبغي قبل أن نتكلّم أن تكون النصيحة الخالصة رائدنا، والرحمة والشفقة دافعنا، وأن نحسن اختيار الكلمات، ونسمو في التعبير عمّا نريد من الخير وعرضه، وليكن شعارنا في ذلك قول الله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. وإذا كان هذا في دعوة فرعون الذي ادّعى الألوهيّة فكيف بحقّ المُسلم على المُسلم، في الرفق والرحمة، والذلّة وخفض الجناح؟!

 

     وقد بيّن الإمام ابن تيمية رحمه الله، خطر الانطلاق من الدوافع النفسيّة، وحذّر منه فقال: «.. وهذا الاختلاف المَذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النيّة؛ لمَا في النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في الأرض ونحو ذلك، فيحبّ لذلك ذمّ قول غيره، أو فعله، أو غلبته ليتميّز عليه، أو يحبّ قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك، لمَا في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة.. وما أكثر هذا من بني آدم!؟ وهذا ظلم. ويكون سببه تارة جهل المُختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحقّ: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالماً بما مع نفسه من الحقّ حكماً ودليلاً. والجهل والظلم: هما أصل كلّ شرّ، كما قال سبحانه: {.. وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب:72]». (اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 148).

 

    2 ـ النصيحة بشروطها وآدابها هي الحقّ الأكبر من حقوق الأخوّة بين المُؤمنين، ولا بديل عنها إلاّ سوء الظنّ والتجريح والاتّهام، والخوض في الأعراض، والقطيعة والتدابر، وما يتبع ذلك من سلسلة رديئة من الخلائق المَذمومة، والمَآثم القلبيّة، التي لا تقف عند حدّ.. ومن أهمّ آداب النصيحة أن تكون سرّاً، بصورة مباشرة، أو بطريق المُكاتبة والمُراسلة.

 

    وكم من نصيحة في السرّ كشفت أوهاماً في الفهم، وأخطاء في النقل، وتزيّداً في الكلام، بل وافتراء من بعض الوشاة المُغرضين وتحريفاً، وقديماً قال سلفنا: «شؤم الرواية آفة الأخبار»، فهل يرضى لنفسه طالب علم، أو داع إلى الله أن يكون سطحيّ التفكير، غير متثبّت من الأقوال، ضحيّة التقوّلات والافتراءات؟!

 

    والحديث عن النصيحة بشروطها وآدابها طويل عريض، كثر تناوله علميّاً ونظريّاً في الخطب والمُحاضرات، والمَجالس العلميّة والندوات، ولكنّ أكثر بيئاتنا الدعويّة والعلميّة وللأسف بعيدة عنه عمليّاً غاية البعد، وما أكثر المُتنصّلين من حقائقه ومعانيه، تحت شتّى المبرّرات والادّعاءات، والمَعاذير الواهمة.. والأمر يحتاج إلى تربية إيمانيّة أصيلة، عميقة دقيقة، ومجاهدة للنفس صادقة، تقطع دابر التأوّلات الباطلة، والحجج الواهية..

 

    ولا يخفى أنّ من فوائد النصح سرّاً أن يتاح للناصح مجال الحوار مع من يخالفه، واستماع وجهة نظره، وما يستند إليه من حجج وأدلّة.. وكثيراً ما تتغيّر وجهة نظره بدرجة ما، بعد محاورة أخيه وسماع رأيه، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا والعدل والإنصاف، والحكمة وسعة الأفق..

 

    3 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، رواه البخاري (1/10) ومسلم (1/49). ما أروعه من ضابط نبويّ دقيق شامل، يغني عن كثير من الضوابط! وما أعظمه من ميزان دقيق لأعمالنا، يغنينا عن كثير من القيل والقال، وكثرة المراء والجدال: فنحن نحبّ لأنفسنا أن نُنصَح سرّاً، ولا نُفضح.. ونحبّ لأنفسنا أن تُلتَمَسَ لنا الأعذار، فيما نجتهد فيه، أو ظاهره الخطأ.. ونحبّ لأنفسنا أن نعان على الخير، ولا يعان علينا أعداؤنا.. ونحبّ لأنفسنا أن تحفظ أعراضنا، ويدافع إخواننا عنّا.. ونحبّ لأنفسنا أن يُتثبّتَ ممّا يُنسَبُ إلينا، ولا يُقبَل عنّا خبر بغير بيّنة وحجّة، ومن منّا لا يحفظ هذا الحديث ويردّده، حتّى أطفالنا الصغار يحفظونه.. فلنكن كذلك مع إخواننا.. ولكن؛ ما بالنا نخالف ذلك، ونتجاوزه في مواقفنا وخلافاتنا!

 

    وإنّ أوّل ما يخاصمنا في هذا التجاوز هذا الحديث الصحيح الصريح، الذي لا يحتاج إلى كبير عناء لفهمه، ولكنّه يحتاج إلى صدق في تطبيقه، ومجاهدة نفس على الالتزام به.. ومن يصدق الله يصدقه..

 

    4 ـ (هَلاّ شَقَقتَ على قلبِه.؟)، هَلاّ أحسنت الظنّ بأخيك، والتمست له العذرَ؟! إنّ علينا أن نحذر كلّ الحذر من إساءة الظنّ بالمُسلم، واتّهام الدوافع والمَقاصد والنيّات، فتلك متاهة مهلكة، لا تقف بنا عند حدّ.. وما أكثر الواقعين فيها، والوالغين في مستنقعها، وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً!

 

    ومن أدبيّات السلف المَشهورة: «التمس لأخيك عذراً ولو من سبعين باباً»، «لأن تحسن الظنّ وتخطئ خير من أن تسيء الظنّ وتصيب».

 

    وقال الإمام ابن سيرين رحمه الله: «إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعلّ له عذراً لا أعرفه».

 

    وما أعظمه من خلق يدلّ على سلامة القلب وصفاء النفس!؟

 

وقال الشاعر:

 

تَأنَّ ولا تَعجَل بِلومِك صَاحباً             لعلَّ له عُذراً وأنتَ تَلومُ

 

وهذا البيت لدِعبل الخُزاعيّ (ت 246هـ)، وقد توارد الشعراء على تضمين شطره بشعرهم، يقول مسلم بن الوليد الأنصاريّ (ت 208هـ):

 

لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ                 وكم لائمٍ قد لامَ وهوَ مليمُ

 

وقال أبو العلاء المَعرِّي (ت 429هـ):

 

لكَ اللهُ لا تذْعَر وَليًّا بغَضبَةٍ           لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ.

 

     وما أكثر ما ينقل العامّة أفهامهم عن أهل العلم إلى طالب علم آخر، فيسرع بإساءة ظنّه، أو إنكاره على إخوانه دون تثبّت ممّا سمع، وعندما يعرف حقيقة القول والمَوقف يتبدّى له كم كان متسرّعاً، وأنّه إنّما أُتي من قبل تسرّعه، وقبوله لتلك الأقوال المُشوّهة أو المُغرضة..

 

    5 ـ ضرورة التمييز بين الثوابت والمُتغيّرات: فقبل الاعتراض والإنكار، والتشنيع وإثارة الغبار لا بدّ من تصنيف العمل الذي هو محلّ إنكارنا: أهو من الثوابت والقطعيّات، التي لا يجوز فيها الاختلاف، أم هو ممّا اختلف فيه قديماً، فلا يزال الخلاف فيه قائماً، ولا مَطمَع لأحد في إلغائه، ولكلّ طرف أدلّته وحججه..

 

    وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذه النقطة في النصّ السابق بقوله: «.. ويكون سببه تارة جهل المُختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحقّ: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالماً بما مع نفسه من الحقّ حكماً ودليلاً. والجهل والظلم: هما أصل كلّ شرّ»، وصدق رحمه الله: «إنّ الجهل والظلم: هما أصل كلّ شرّ».

 

     وكثير من الدعاة وطلبة العلم يلزم ما ألفه واعتاده، ويتمسّك به أشدّ التمسّك، وينافح عنه، قبل التفكير فيه: أهو من الثوابت التي لا خلاف فيها أم من الأمور المُختلف فيها؟ فتراه يسارع إلى إنكار ما لم يألف، بل والشدّة في ذلك بصورة تخرجه عن المَوضوعيّة، والمَنهج العلميّ الرشيد.. وللحديث بقيّة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين