معالم النهضة الإنسانية في ضوء الولادة النبوية

كانت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم من أبرز الأحداث التي شهدها العالم وأثرت تأثيرا هائلا في إخراج اجزاء كبيرة منه من ظلمات الشرك والجاهلية الى نور التوحيد والحضارة الاسلامية ومازال هذا التأثير مُدويّا ومستمرا رغم كل محاولات أعدائه لإطفاء نوره (والله متم نوره ولو كره الكافرون).

ولعل الإرهاصات والمبشرات التي سبقت نبوّته ورافقتها تؤشر إلى حدوث هذا التغيير الكوني الكبير، بداية من ولادته ومرورا ببعثته وهجرته وفتوحاته عليه الصلاة والسلام.

ومنها:

عن لقمان بن عامر قال سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَة رضي الله عنه يقول: (قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله ما كان أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِك؟ قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام) رواه أحمد والحاكم بسند صحيح. قال ابن كثير: " قوله: (ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام) قيل: كان مناماً رأته حين حملت به، وقَصَّته على قومها، فشاع فيهم، واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة ": أي تمهيد للنبوة. وقال ابن رجب: "خروج هذا النور عند وضعه ؛ إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

ولقد احتفى النبي صلى الله عليه وسلم بولادة هذا النور فقال حين سُئل عن صيام يوم الاثنين: " ذلك يوم فيه ولدت وفيه أنزل عليّ " رواه مسلم.

بل إن الله تعالى جعل العام الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم عاما مميزا على سائر الأعوام حين دحر عن بيته الحرام والبلد الحرام أبرهة وجيشه في حادثة الفيل المشهورة التي خلّدها في كتابه فقال: (ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل...). قال الماوردي: ".. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل".

وقال ابن كثير: "هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشرِّ خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كانت عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال".

فغريب ممن يريد منا ان نتجاهل هذه الذكرى المجيدة المنيرة ونمر عليها مرورا جامدا لا طعم فيه ولا لون ولا رائحة.

في حين أن هذه المناسبة الخالدة والعظيمة والعطرة يجب ان تكون منطلقا لتجديد الصحوة الإسلامية المعاصرة وحافزا للدعوة والعمل لبعث معالم النهضة الإنسانية التي أرسى دعائمها النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي شرّف العالم بولادته ورسالته.

فما هي أهم هذه المعالم والدعائم التي يحتاجها العالم اليوم وفي كل وقت للنهوض من كبوته والخروج من أزمته:

أولا: الإيمان.

إن أساس أي نهضة سليمة هو الفكر المستنير الذي يُقدم التصور الصحيح عن الحياة وما قبلها وما بعدها أي الإجابة عن الأسئلة المصيرية: من أنا؟ من خلقني؟ لماذا خُلقت؟ وإلى أين المصير بعد الموت؟ والإسلام هو المبدأ الوحيد الذي قدّم الإجابات الواضحة والوافية لهذه الأسئلة المصيرية.

وبالعودة الى الصفحة الاولى من سورة المؤمنون – على سبيل المثال - نجد الإجابات القاطعة عن الأسئلة المصيرية السابقة التي تنقذ الإنسان من الحيرة والقلق والمجتمعات من الضياع والضنك.

يقول السفير الدانمركي في الرياض " أولسن ": " كنت حائرا تائها أبحث عن أجوبة لأسئلة عديدة..لم تكن المسيحية التي اعتنقها في ذلك الوقت تستطيع أن توفر الإجابة عليها..وعندما أعلنت إسلامي تصالحت مع نفسي المضطربة وعقلي الحائر وكانت الطمأنينة والاستقرار والتوازن العقلي والنفسي مع الإسلام ذلك الدّين الحقّ " (مجلة النور الكويتية ١١٠).

ثانيا: العلم.

مما لا شك فيه أن إعمال العقل في سبر أغوار المعرفة والتزود من العلوم النافعة الدينية والدنيوية من أهم أسباب النهوض الحضاري والإنساني ونحن الآن في عصر العلم والمعلومات والتكنولوجيا والتواصل الاجتماعي والحوار الثقافي والتسابق التقني والصناعي والصراع على الطاقة..

و هذا كله لا يصمد ولا ينتصر فيه إلا من تسلّح بالعلم على اختلاف أنواعه. لذا حثنا القرآن على التزود من العلوم النافعة في قوله تعالى: (وقل ربّ زدني علما).

بل كانت أولى آيات القرآن الكريم نزولا هي الآيات التي تأمر بالقراءة وتُمجّد القلم والعلم وتلفت نظر الإنسان إلى الإعجاز في الخلق(انظر: مطلع سورة العلق).

ثالثاً: العمل.

أي العمل المنتج الذي هو جزء من العمل الصالح. قال تعالى: (...يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو انشأكم من الأرض واستعمركم فيها..)هود ٦١. فمهمة المخلوق: (إقامة الفرض)وأوله عبادة الخالق جل جلاله (وعمارة الأرض) بالخير والخيرات. كما قال الإمام الماوردي.

فينبغي على المسلم أن يملأ وقته بالعمل الصالح و المنتج ولا يليق به ان يبقى فارغا عاطلا بلا عمل دنيوي ولا عمل اخروي كما قل سيدنا عمر رضي الله عنه.

كما ينبغي استثمار الطاقات الشابة وتوفير فرص العمل لها كي تساهم في نهضة مجتمعاتها.

رابعا: الأسرة.

إن بناء الأسرة الصالحة هي المدماك الأول في بناء المجتمع الصالح وبالتالي في نهضة الأمة والإنسانية. لذلك كان من دعاء عباد الرحمان: (ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما).

وإلى جانب الدعاء لا بد من العمل الدؤوب في تربية الأبناء والبنات على الدّين والخُلق بمختلف الأساليب التربوية المتاحة والناجحه مع التعاون بين الأبوين في القيام بهذه المهمة العظيمة التي لا تنتهي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرجل في بيته راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " رواه مسلم.

خامسا: الوحدة.

وحدة الصف واجتماع الكلمة والأخوة الحقيقية من أعظم أسباب القوة والنهوض بخلاف النزاع والشقاق والاحتراب الداخلي فهو من اخطر اسباب التخلف والفشل. وقد نبهنا المولى لذلك بقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..) لذلك علينا ان نحرص على تعزيز نقاط التلاقي والوفاق ببن مكونات الأمة ونبذ او تقليل نقاط التباعد والاختلاف بين مكوناتها.

سادسا: الوطن.

على المسلم أن يكون عامل بناء ورقي واستقرار لوطنه الصغير الذي ولد فيه ثم لوطنه الكبير الذي تربطه به رابطة الدين والإنسانية. وأن يعمل كفرد وجماعة في خدمة وطنه وشعبه وأمته وحمايتهم من الأعداء وأن يقدم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية او الحزبية او العشائرية او المناطقية. وبذلك يكون المسلم والعمل الإسلامي منارة خير وصلاح لأوطانهم وأمتهم مع العمل المخلص والدؤوب للوصول الى التغيير المنشود بالسبل الحكيمة والمشروعة.

وأخيرا: في ضوء هذه المعالم الراقية تستطيع أوطاننا وأمتنا النهوض مجددا واستعادة دورها الحضاري العالمي لا سيما أن الله حبانا موقعا جغرافيا مميزا وثروات مادية هائلة وطاقات بشرية كبيرة إلى جانب تراثنا التاريخي والثقافي والروحي والأخلاقي المستمد من ديننا الحنيف الخالد وعلى العلماء والحركات الإسلامية أن يضعوا نصب أعينهم هذه المعالم والدعائم في تربية أبنائهم وتوجيه جماهيرهم لنصنع معا نهضتنا ومستقبلنا (كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

والله الموفق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين