مصنع الطائرات.. متى يطير؟

في عام 1970 كنت أدرّس طالبات الصف الخاص لإعداد معلّمات المرحلة الابتدائية (عامٌ إضافيٌّ واحدٌ بعد الشهادة الثانوية). وكان من المقرّرات في منهج مادّة اللغة العربيّة؛ كتابٌ للكاتب المسرحيّ توفيق الحكيم (لُقّب بعدوّ المرأة رقم واحد، ولم يتزوج إلّا بعد أن تجاوز الستّين).

كان ضمن مقالات الكتاب (ولعلّه كتاب "عودة الوعي" إن لم تَخُنّي الذاكرة) مقالةٌ يحاول فيها الحكيم أن يُثبت، ومن خلال استشهاداتٍ تاريخيّةٍ يدعّمها بآراءٍ شخصيّةٍ له ولغيره، أنّ المرأة لا يمكن أن تكون عبقريّة، وأنّ هذا المنصب الفكريّ المميَّز محجوزٌ للرجل وحده دون المرأة!!

وكعادتنا في درس المطالعة، تناوبتِ الطالباتُ قراءةَ المقال مقطعاً إثر مقطع، وبدأتُ أشعر شيئاً فشيئاً بأنّ جوّ الفصل غدا مكهرباً، وأنّ حرارته آخذةٌ بالارتفاع إلى درجةٍ تنذر بالانفجار.

وفي اللحظة التي انتهت فيها إحدى الطالبات من قراءة المقطع الأخير؛ حدث ما كنت أتوجّس منه: ارتفعت أيدي الطالبات دفعةً واحدةً وهنّ يتبارين في مدّها عاليةً بوجهي، كلٌّ تريد أن تتكلّم، أو بالأحرى تريد أن تصرخ احتجاجاً وغضباً، لتسألني بعيونٍ محمرّةٍ وأوداجٍ منتفخة: أصحيحٌ ما يدّعيه هذا "الرجل" يا أستاذ؟

كان الجميع يتوقّع مني أن أجاملهنّ، على الأقلّ، بما تهدأ به النفوس، وتطمئنّ له الخواطر، وأفرّغ الشحنة الكهربائية التي امتلأت بها الصدور الغاضبة والوجوه المكفهرّة، وأن أقول: هذا غير صحيح، أو: لا تلتفتْنَ إلى ما يَهْرِف به هذا العجوز.. ولكنّ أيّاً من الطالبات لم تكن تتوقّع أبداً أن تكون إجابتي على هذه الدرجة من الجرأة والصراحة والمباشرة، حين نطقتُها أمامهنّ هكذا مِن غير تردّدٍ ولا وجَل: طبعاً، هذا صحيح...

وشهقت الطالبات الأربعون في وجهي شهقةً جماعيّةً مخيفةً، وقد بُهِتْنَ مِن جرأتي اللامبالية والصادمة: أأنت تقول هذا يا أستاذ؟ وفي وجوهنا؟

قلت لطالباتي: قبل أن تسمعوا ردّي على اعتراضاتكنّ؛ أريد أن أسمع رأيكنّ أولاً في هذه القضية:

-       لو حدث أن أبلغتْنا دولةٌ كبيرةٌ عن نيّتها لتقديم طائرةٍ حربيّةٍ كبيرةٍ من أحدث طرازٍ هديةً لبلادنا، فكيف تتوقّعن أن يكون ردّنا على هذه المبادرة؟

-       بالشكر والامتنان طبعاً!

هكذا أجابت الطالبات وهنّ ينظرن إليّ بتشكّكٍ وحذر. ولكن قلت متابعاً : لو حدث أن غيّرَتْ هذه الدولة رأيها في اللحظة الأخيرة، وقرّرت أن تُهدينا مصنع الطائرات نفسَه بدلاً من الطائرة، فهل نغضب ونشتم ونحتجّ على "لَحْسِها" قرارَها القديم، ونرفض عرضها الجديد فنرميه في وجهها قائلين: وماذا نفعل بالمصنع؟ إنّه لا يطير؟

لنفكّرْ بهدوءٍ وبموضوعيّةٍ كمعلّماتٍ للمستقبل:

إذا كانت وظيفة المرأة الأساسيّة هي أن تصنع العبقريّات، فهل يحطّ من قيمتها أنّها لا تُعبقِر؟

وتنفّست الطالبات الصعداء في زفرةٍ متردّدةٍ وحذرةٍ ومتقطّعة، ولكنْ فرّغن بها معظم شحنات الغضب والاحتجاج التي كانت تتصارع في داخلهنّ قبل أن يسمعنَ منّي هذه الكلمات الأخيرة!

تلك الحادثة تلخّص لنا في الواقع ذلك الحوار الأزليّ والمستمرّ حول جدليّة الذكورة والأنوثة، وأضعها في حساب من يريدون للمرأة والرجل أن يتبادلا الأدوار، ويصرّون على أن "تَعقِل" المرأة، فتحزم أمرها وتحاول الطيران وإن كانت لا تملك جناحين، وأن "يَعقل" الرجل، فيحزم أمره ويحوّل طائرته إلى مصنعٍ للطائرات، وإن كان لا يملك أيّة آليّةٍ تؤهّله لهذه الصناعة... ثمّ لا يتبقّى بعد هذه الخطوة إلّا أن نقلب وظائف الكون كلّه، فنطبّق جداول طويلةً من عمليّات "المساواة" و"العدالة" و "الحرّية" بين عناصر الطبيعة المختلفة، فيتبادل القمر والشمس وظائفهما، والأنهار والبحار أدوارهما، وفاكهة الصيف وفاكهة الشتاء مواسمهما، والقبّعة والحذاء مواقعهما، ووو..

أليس هذا ما يريدنا أن ننتهي إليه كلّ من ينادي بالمساواة العمياء بين المرأة والرجل، والمصنع والمصنوع، وأن يَحرِم المرأة من وظيفتها الأساسيّة: صناعة الرجال، وبناء العباقرة؟

لا عار في مصنع العباقرة إذا لم يتحول إلى عبقريّ، ولا عار في العبقريّ إذا لم يتحوّل إلى مصنعٍ للعباقرة.

أيّ فضلٍ للطائرة في طيرانها؛ إذا تناست أنّها ما كانت لتطير لولا المصنع الذي صنعها، وأيّ فضلٍ لمصنع الطائرات؛ إذا تناسى أنه ما كان ليوجد لولا حاجتنا إلى الطائرة؟ ولو جُنّ أيٌّ من الطرفين، وقرّر أن ينتحر فيتولّى مهمّة الآخر، لفَقَدنا المصنع والمصنوع، وهو ما يجري الآن حقّا في كثيرٍ من بلدان العالم، غرباً ثمّ شرقاً.

خَلق الله الإنسان لتتراكب عناصر طبيعته كما تتراكب أسنان كلّ عجلةٍ من عجلات الآلة مع فجوات العجلة التي تقابلها، بحيث تدور هذه الآلة بشكلٍ طبيعيٍّ، وتقوم بوظيفتها المرسومة لها.

ولقد خُلق الرجل والمرأة بحيث تتوافق أسنان عجلة شخصيّة كلٍّ منهما مع فجوات عجلة شخصيّة الطرف المقابل، وخُلق البشر بحيث تتوافق أسنان عجلات طبيعتهم مع فجوات عجلات عناصر الطبيعة من حولهم، فإذا حدث أن تمرّدت عجلةٌ واحدةٌ مِن عجلات هذه الأطراف على طبيعتها، وعدّلت أسنانها أو فجواتها، وقعت الكارثة، وتحطّمت العجلات، ولم تعد الأرض صالحةً للحياة.

إنّ هذا ما يجري الآن لطعامنا، وغذائنا، وأرضنا، وهوائنا، وبحارنا، وأنهارنا، بعد أن غيّرنا طبيعتها فلم تعد مناسِبةً لطبيعة أجسادنا، وهو نفسه ما سيجري أيضاً، إن لم يكن قد بدأ يجري حقّاً، لعلاقة المرأة بالرجل، عندما يحاول أحدهما أن يتمرّد على دوره الأزليّ، فيحاول أن يغيّر أسنان عجلاته أو فجواتها، والنتيجة، ليس اضطراب آليّة هذه العلاقة، وتراجُع نِتاجها عن المستوى الذي قدّره لها الصانع، فحسب، بل اضطراب فيزيائيّة العجلة نفسها وتركيبتها المادّية، أيضاً، وتكسّر أسنانها، وعدم صلاحيتها لأيّ شيء.

وإنّنا نلمس نتائج هذه التحوّلات بوضوح ونحن نرى اليوم انتشار الأمراض الخطيرة عند المرأة، وبشكلٍ مقلقٍ وغير مسبوق، ولا سيّما في الأجزاء الأنثويّة من جسدها، كالرحّم والصدر، ممّا يستدعي دراسة هذه الظواهر دراسةً علميّةً موسّعةً، للتأكّد من سلامة الطريق التي نسلكها، بعد أن انحرفنا بها عن طبيعتها ووظائفها التي أرادها لها الخالق.

ولا شكّ أنّ حاجات جسد أيّة امرأةٍ الآن؛ هي نفسها حاجات جسد جدّتها حوّاء. وإنّ حاجات جسد أيّ رجلٍ الآن هي نفسها حاجات جسد جدّه آدم. ولا نستطيع أن ندّعي أنّ الفرق بين طبيعة جسد المرأة بالأمس، وطبيعة جسد المرأة اليوم، هو، بشكلٍ أو بآخر، كالفرق بين طبيعة سيّارة الأمس وطبيعة سيّارة اليوم، أو بين طبيعة هاتف الأمس وطبيعة هاتف اليوم!

تركيبة الجسم الإنساني لم تتغيّر على الزمن إلّا كما يتغيّر طعم التفّاح بين شجرةٍ وأخرى، أو حقلٍ وآخر. إنّ حاجة الرجل لروح المرأة، ولجسد المرأة، وإنّ حاجة المرأة لروح الرجل، ولجسد الرجل، وإنّ حاجات الحياة الحيوانيّة والنباتيّة، المتباينة، والمتكاملة، لهدف ضمان استمرارها واستمرار توالدِ أجيالها، هي هي لم تتغيّر، إلّا إذا ادّعينا أنّنا قادرون على أن نوجِد مخلوقاتٍ بشريّةً جديدةً ليست من نسل آدم وحوّاء.

من يريد أن يساوي بين وظيفة الرجل ووظيفة المرأة؛ هو كمن يريد أن يساوي بين وظيفة العقل ووظيفة القلب، أو بين وظيفة الهواء ووظيفة الماء، أو وظيفة الأمطار ووظيفة التراب، أو وظيفة الأرض ووظيفة البذور..

إذا كانت المرأة صانعةً للرجال، وللعبقريّات، وهي كذلك حقّاً، أُمّاً كانت، أو زوجةً، أو جدّةً، أو أختاً، أو مربّيةً، أو مشرفةً، وهي مَهمّةٌ لا يحلم بها أيّ رجل، فهل من المعيب لها ألّا يُسنَد إليها العمل الذي يقوم به هؤلاء الرجال الذين تصنعهم؟

ماذا يُضير صانعةَ الرّجال ألّا تكونَ رجلاً؟ وماذا يُضير مصنعَ الطائرات ألّا يطير؟

يقول الرئيس البوسنيّ السابق علي عزّت بيجوفيتش في مقالٍ له عن المرأة، مفنّداً المنطلق الأساسيّ الذي ينطلق منه دعاة المساواة التامّة بين الجنسين:

"إنّ الأمر هنا لا علاقة له بتفوّقٍ في جانبٍ أو دونيّةٍ في جانبٍ آخر، لأنّ مسألة التفوّق والدونيّة يمكن تصوّرها فقط بين أشياء من جنسٍ واحد.. ومن ثمّ فإنّ المرأة لا يمكن وصفها مقارنةً بالرجل بأنّها أعلى أو أدنى.. لأنّها، بكلّ بساطة، مختلفةٌ عن الرجل، لذلك تسقط المقارنة.. فلا معنى للسؤال أصلاً.. ويرجع السبب في هذه الفوارق إلى اختلاف دور كلٍّ منهما في نشأة الحياة واستمرارها على الأرض.. فالمرأة هي رمز الخصوبة والولادة وتعاقب الأجيال، وفي هذا المجال، بالِغِ الأهمّية، تقوم المرأة بدورٍ مباشر، أمّا دور الرجل فيبدو أقلّ أهمّيةً، وكأنّه ليس أكثر من مُشاهدٍ حائر!..

وهنا لا يصحّ وصف العلاقة بأنّها مجرّد علاقة رجلٍ وامرأة، وإنّما الحقيقة أنّها علاقة أمٍّ بوالد طفلها!.. فالأمور هنا لا بدّ أن تأخذ الشكل أو الصفة التي ينبغي أن تكون عليها كما تفرضها طبيعة الجنسين.. في هذه العلاقة يصبح السؤال عن المساواة بين الجنسين بلا معنىً، بل يصبح سؤالاً مضحكاً".[1]

ومهما كان منطلق المرأة التي تدعو إلى المساواة مع الرجل، وأيّاً كان نُبلُ مقصدها، فمن المؤكّد أنّ أكبر شتيمةٍ يمكن أن توجَّه إلى امرأة هي أن يقال لها: أنتِ رجل، لأنّها ستكتشف، لو فكّرت قليلاً، أنّ الصفات الأنثويّة التي استُلبت منها بهذا الوصف، والصفات الدخيلة التي استُعيرت لها من الرجل، قد جرّدتها من شخصيّتها، وسَحَبت منها هويّة الاعتراف بخصوصيّتها، وبأهمّيتها، وتميّزها، واستقلاليّتها، وبصلاحيتها لوظيفتها، الخاصّة جدّاً، والمعقّدة جدّاً، والتي يعجز الرجل، مهما كانت قدراته الجسديّة والعاطفيّة والعقليّة، عن أن يقوم بها أو يسدّ بعض فراغها.

إذا كان للعبقريّة من تلاميذ وخرّيجين؛ فهم الرجال، وإذا كان لها من مدارس ومعاهد وجامعات؛ فهي النساء، وإذا فقدنا هذه المدارس والجامعات، أو شوّهنا مدرّسيها، شوّهنا العبقريّة، وفقدنا العباقرة.

 



[1] المترفون والمفسدون في الأرض. محمد يوسف عدس. المعهد العالمي للوسطية، والجامعة الإسلامية العالمية في كوالا لامبور.  Lumpur  Kuala. : Fajar Ulung2016. ص: 40-41.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين