مشروع نصر قريب الحلقة السابعة : هل في الإسلام حريات أساسية؟

 

أدلة الكتاب والسنة وفعل السلف على الحريات التي نريد:

1. صيانة حقوق الإنسان وإطلاق الحريات العامة للمواطن:

  • حرية التعبير:

لعل من أصعب الأمور على بعض مسلمي اليوم إدراك أن الإسلام العظيم يكفل ويضمن حرية التعبير، وأن سياسات كم الأفواه ومنع التعبير ليست إلا ممارسات مشركي مكة وكفارها، يصعب عليهم هذا الإدراك مع أن نصوص الكتاب والسنة كثيرة متعاضدة على شرح هذه القضية. ويصعب عليهم هذا الإدراك مع أن ممارسات المسلمين في سلف الأمة وعصور النهضة كانت في منتهى التسامح والانفتاح والحرية. والموضوع حساس عند بعضهم إلى درجة منع البحث أو الكلام فيه.

ولذلك فهو يحتاج إلى بحث مفصل شيء ما ومتأن يناقش وجهات النظر جميعها. نسأل الله الهداية والسداد. وهذه نقاط البحث:

1. انعدام دليل التحريم: اتفق أهل الأصول على أن الأصل في كل شيء الإباحة، ما لم يرد دليل التحريم. فمن يقول بتحريم جهر الناس بوجهات نظرهم وتحريم نشرها، أو تحريم حريتهم في التعبير، فما عليه إلا أن يدلنا على الدليل الذي اعتمده من القرآن أو السنة. والدليل الوحيد الذي أعرف أنهم يعتمدون عليه هو ما رواه الإمام احمد وغيره عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم:

أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُسْخَةٍ {استحسنها} مِنَ التَّوْرَاةِ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ. فَسَكَتَ. فَجَعَلَ يَقْرَأُ، وَوَجْهُ رَسُولِ اللهِ يَتَغَيَّرُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ! مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ. فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا! فَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ أَوْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ. فَـ} وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ! وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَـ {مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَـ} تَّبَعَنِي".

أولا الحديث قد لا يصح في سنده: مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وقد اضطرب فيه. وهذا الحديث من الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه وطرق. ولكنه الوحيد الذي لم أستطع تصحيح أو تقوية أي منها. وقد أعله البخاري والعقيلي والدارقطني. غير أن الحافظ ابن حجر قال بعد ذكر هذه الطرق: وهذه جميع طرق هذا الحديث. وهي، وان لم يكن فيها ما يحتج به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا.

وتابعه على حكمه شيخنا الألباني رحمهما الله فحكم على رواية الحديث التي أوردناها أنها حسنة. بعد هذه المقدمة لنعتمد الرواية التي حسنها الشيخ رحمه الله، فهل تدل، ومعها كل روايات الحادثة، على كم الأفواه ومنع الناس من البوح بما في قلوبهم؟! والجواب: لا! فهذا الحديث ليس له أي علاقة بمنع التعبير كما هو ظاهر!

فقد جاء هذا النص، على فرض ثبوته، جوابا على "استحسان" عمر (رض ) لجزء من التوراة. وفي رواية: انتسخت كتابا من أهل الكتاب لنزداد به علما إلى علمنا. وهكذا قد استشهد به العلماء. انظر القرطبي وابن كثير حيث ذكره بعد قوله: ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب... وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضوع: الاعتماد على نقل أهل الكتاب... وأورده في موضوع:

وجوب إيمان الأنبياء والرسل ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كانوا أحياء يوم بعثته. وقال تلميذه ابن قيم الجوزية: لو عورض ما جاء به خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه بموسى وعيسى كانت هذه المعارضة ضلالا وانسلاخا... ثم ذكر الحديث... فالحديث إذا لا علاقة له بموضوع حرية التعبير. فإذا كان الدليل الوحيد ولم يكن له علاقة بمنع حرية التعبير تبين أنه لا دليل على التحريم. وعاد الحكم في المسألة إلى البراءة الأصلية. أي عاد حكم المسألة إلى الإباحة.

2. في مقابل انعدام دليل التحريم الذي مر، نجد كتاب ربنا جل وعلا يأمر بحرية التعبير ويمتدحه بشكل غير مباشر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18]. وقد نقل القرطبي هنا قول ابن عباس: " هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح..." أ. هـ. أي لا أحد يمنع أحدا من الكلام. فالله سبحانه يثني على الاستماع، لا على عدم الاستماع. ويعتبره من صفات من هداه الله ومن صفات أصحاب العقول. وكأنها إشارة إلى أن الاستماع لجميع الأقوال هي وسيلة الهداية ووسيلة الإعمال الصحيح للعقل. والاستماع مستحيل لو منعنا "القول" فتنبه! وقول ابن عباس رضي الله عنه هو فهم السلف الذين سمعوا الحسن والقبيح (أي سمعوا كل الأطراف) فاستحقوا بذلك فتح العالم.

3. طبيعي إذا أن نجد أن الكتاب والسنة قد أقاما أجمل وأنصع سجل تسامح وتفهم، في التاريخ البشري كله. وترفعت نصوصهما، مع تلطف وترقق، عن هفوات الخصم وانحطاطه. وتعاملت معه بشجاعة وعدم خوف. بل بثقة زائدة بالله ثم بالنفس. مع هدوء وسعة صدر. ومجادلة بالتي هي أحسن. شأن الواثق مما عنده من الحق. المريد الخير للناس.

انظر إلى قوله تعالى: "قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ  " ( الزخرف-81). قال الإمام القرطبي في تفسيرها: ".. قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده. ولكن يستحيل أن يكون له ولد... قلت: ولم يقل: "امنعه من نشر الكفر والضلال"! أو "صادر آراءه وأقواله فأنت على حق وهو على باطل"! أو "إياكم أيها المسلمون أن تذكروا جملة: "لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ" أمام أحد فيفتتن بها"!!!

4. يبين القرآن الكريم أن إخراس الرأي الأخر ومنعه من الظهور هو منهج الكفار وطريقتهم! قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ  " ( فصلت -26). قال القرطبي: " (وَالْغَوْا فِيهِ):.. قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يُدْرَى ما يقول.. قلت: أي امنعوا صوته من الظهور بأي طريقة. وحديث جعفر بن أبي طالب عند النجاشي، واضح في محاولات الكفار منع المسلمين من الكلام عن الإسلام بأي ثمن.

5. منع التعبير خوفا على الناس من الفتنة هو موقف مشركي قريش. ولم نر مثله في أي نص من نصوص الإسلام. والمنع بهذا السبب يدل عند التأمل على عدم الثقة بأنفسنا وبما نملك من أفكار ومعتقدات. وهو حال المشركين والكفار ولا يمكن أن يكون موقف المسلمين. يروي البخاري في حديث الهجرة الطويل كيف صرف ابْنُ الدَّغِنَةِ أبا بكر رضي الله عنه عن الهجرة إلى الحبشة وأعاده:... فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ المَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا: لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا

6.  وأخيرا، فقد صح في روايات حديث صلح الحديبية المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ فَأَضَرَّتْ بِهِمْ. فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً {يأمنون فيها ويستجمون} وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ. فَإِنْ أَظْهَرُ {على الناس، كانوا فيها بالخيار}؛ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَعَلُوا. وَإِلَّا، فَقَدْ جَمَوْا {وقد جمعوا وأعدوا}... ( رواه أحمد ). أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم يحارب لضمان حرية التعبير والبلاغ.. صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.

  • حرية التجمع:

الأصل في الإنسان الحرية. والله سبحانه بين أن استعباد الناس وفرض الوصاية عليهم ليس إلا من فعل الجبابرة والطواغيت الكفار الذين أرسل الله الرسل لردهم عن هذا الطغيان. قال تعالى عن فرعون عليه لعنة الله: "... قَالَ فِرْعَوْنُ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ " (غافر- 29). والجبار الذي يجبر الناس على رأيه مدان في القرآن الكريم حتى ولو كان على حق. قال تعالى:

"فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ " (القصص-19) فتجعله الآية الكريمة في مقابلة المصلحين مريدي الخير. فالآية واضحة في أن المصلح مريد الخير لا يمكن أن يكون مجبرا للناس. بل صرح القرآن بالإدانة فقال: "الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر- 35).

وقال: "وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ  " ( إبراهيم – 15 ). فإذا مُنع الناس من إجبار بعضهم بعضا، كانت حرية التجمع جزءا من الحرية العامة للناس. وقد أفردناها هنا، لأن الطغاة يخافون من تجمع الأحرار. فيمنعونه تحت أي مسمى. لأنهم يريدون استعباد الناس. ونحن نريد كشف زيفهم وغشهم واستخفافهم بالناس. فننص على حرية التجمع والانتماء.

ج - منع التعذيب بشكل نهائي:

التعذيب جريمة ضد الإنسانية، فحتى بعد مرور ألف وخمس مئة عام على رسالة الإسلام الرحمة وتعليمها للناس وتهذيبها للبشرية، ما يزال الناس في سقوط، بل لعله من أعجب الأمور أن يكون المسلمون أنفسهم اليوم من أكثر الناس سقوطا فيه. وكيف لا نعجب وقد تراجع المسلمون حملة شعلة الخير والرحمة إلى الوراء، بل تراجعوا إلى آخر الصف البشري في محامد كثيرة منها تحريم هذه الآفة الساقطة.

وقد كانوا لحقبة قريبة، حملة شعلة الخير على الحقيقة. يُذَكِّر وينبه بعضهم بعضا، بل ويشتدون على بعض وينفعلون فيتجاوزون رحمة ودفاعا عن الضعيف. جَلَدَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، صَاحِبَ دَارِيَا حِينَ فُتِحَتْ. {فأتاه} فَأَغْلَظَ لَهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ الْقَوْلَ حَتَّى غَضِبَ عِيَاضٌ. ثُمَّ مَكَثَ لَيَالِيَ {غضبانا. فأمهله حتى ذهب عنه الغضب}، فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ لِعِيَاضٍ؟ أَلَمْ تَسْمَعِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

"إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا {يوم القيامة}، أَشَدَّهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِلنَّاسِ"؟ فَقَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ: يَا هِشَامُ بْنَ حَكِيمٍ، {إنا} قَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ. وَرَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ. {و علمنا الذي علمت. وصحبنا الذي صحبت}. أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ، فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً. وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ. فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا، كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ. وَإِنَّكَ يَا هِشَامُ لَأَنْتَ الْجَرِيءُ، إِذْ تَجْتَرِئُ عَلَى سُلْطَانِ اللهِ، فَهَلَّا خَشِيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ السُّلْطَانُ، فَتَكُونَ قَتِيلَ سُلْطَانِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ ( صحيح. رواه الإمام أحمد والطبراني)

وتعذيبهم يومها لا يقارن بما يفعله المجرمون اليوم. بل إن الصحابة قد اعتبروا تشميس الناس تعذيبا.

مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، نفسه الصحابي السابق، عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ. فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا" {قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ، عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا}. ( صحيح. رواه الإمام مسلم وغيره).

بل لقد استطاع رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلق رهافة الحس في معاملة الناس، حتى عند القادة العسكريين. فهذا خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يقول: تَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَجُلًا بِشَيْءٍ، فَنَهَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: أَغْضَبْتَ الْأَمِيرَ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أُغْضِبَكَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا". ( صحيح. أحمد والطيالسي وغيرهما).

وقبل إنهاء هذه الفقرة لا بد من حديثين يبينان أن التعذيب من أكبر الكبائر. وأن من يعذب الناس لا يدخل الجنة، ويخرج من بيته كل يوم وهو في غضب الله. ويرجع إليه كل يوم وهو في سخطه. أولهما: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ. لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا". (صَحِيحٌ، رواه مسلم وغيره).

وثانيهما: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ أيضا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ، أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ. يَغْدُونَ فِي غَضَبِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللهِ". (صَحِيحٌ، رواه مسلم وغيره).

  • حرية التدين والاعتقاد:

لعل علماء التاريخ وتطور الحضارة الإنسانية يثبتون أن الإسلام هو أول من ضمن حرية التدين للكل علنا. قال تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  " (البقرة - 256). وسبب نزول الآية كما يقول ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا (التي لا يعيش لها ولد) فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ.

فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). (صحيح. أبو داود وغيره.) قال الحافظ ابن كثير: أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الاسلام. فانه بين واضح جلى دلائله وبراهينه. لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه. بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة. ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فانه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.

ومن جميل التاريخ الإسلامي أن تطبيق حرية التدين كانت عند المسلمين حقيقة واقعة. بل يذكر غيرنا هذه الأيام أن بلادنا بلاد الشام بقي أغلب سكانها على مسيحيتهم أكثر من ثلاث مئة سنة لا يتعرض لهم أحد بسوء! بل مما يروي التاريخ أن الخليفة المتقدم جدا يزيد بن معاوية المشهور بالظلم والفجور عشق راهبة مسيحية في دمشق، فامتنعت منه. فهام بحبها ولكنه ومع ظلمه لم يتجرأ على إجبارها على شيء، ولم يمسها أو أهلها أو طائفتها بسوء. وقد كان قادرا على أن يذبحهم ويبيد خضراءهم فقد كانت جيوشه تملئ الدنيا. وكان قادرا على تبرير ذلك أنهم غير مسلمين لكنه لم يكن يجرؤ على مخالفة النظام العام للمجتمع المسلم القائم على العدل وحرية التدين والاعتقاد.

  • تعدد الأحزاب والتجمعات السياسية:

تعدد الأحزاب والتجمعات السياسية ليس حرية في الإسلام وحسب، بل هو واجب على المسلمين. يؤدون به واجبهم من النصح والعطاء تجاه مجتمعاتهم التي يعيشون فيها. قال تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  " (آل عمران -104)

والآية واضحة عند التأمل على قيام مجموعات مختلفة تدعوا إلى الخير حسب ما تراه؛ فمنها مثلا من سيعتبر النهضة التعليمية هي الأولوية الأولى. ومنها من سيعتبر الأولوية الأولى هي النهضة الصحية. ومنها من سيعتبر النهضة الاقتصادية هي. وهكذا تتجمع كل أمة (حزب) على حدة تدعو إلى الخير الذي تراه.

و تقوم هكذا الأحزاب السياسية. فتطالب الأولى بالنهضة التعليمية وتضع الخطط وبرامج العمل للنهضة به. وتترك النهضة الاقتصادية أو الصحية للخطوة الثانية أو الثالثة. وتطالب الثانية والثالثة كل ببرامجه. وينزلون على الانتخابات العامة فيتنافسون  في إقناع الناس بتبني برنامجهم السياسي.

فينتخب الناس الحزب الذي اقتنعوا ببرامجه أكثر. ويعطونهم فرصة لينفذوا تلك البرامج. فإن نفذوا ونجحت برامجهم أعاد الشعب انتخابهم. وإلا خسروا الانتخابات. وانتخب الشعب حزبا غيرهم لقيادة البلاد وتنفيذ برنامجهم السياسي الآخر. وتدور الدائرة هكذا إلى النهاية. فيصح هكذا تطبيق الآية الكريمة إذ يدعو كل حزب إلى الخير بالشكل الذي يراه. ويتنافس الناس هكذا على خدمة الأمة أكثر والبذل من أجلها أكثر وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.

و لعله من المفيد هنا التأكيد على أن التنافس السياسي في الإسلام يجب أن ينبني على معيار خدمة الأمة أكثر. وأن المناصحة في الإسلام السياسي على خلاف المعارضة السياسية التقليدية تسعى لإنجاح الحاكم المسلم وإن كان من حزب منافس ولا تسعى لإفشاله. ففشل الحاكم يعود بالضرر على الأمة ككل. وقد مر معنا أن القرار حين يتخذ بطرق شرعية يصبح قرارا تعمل المؤسسة كلها على إنجاحه.

  • حرية وواجب التداول في الشأن العام:

وهذا أيضا مثل سابقه. وينطوي عليه ما جاء في الآية الكريمة السابقة. فمن يدعو إلى الخير، لا بد له من التداول والتباحث مع الناس في مصالح الأمة وشؤونها. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الواجب وكأنه الإسلام كله. عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ! إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ! إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ"! {ثَلَاثًا}. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لِلَّهِ. وَلِكِتَابِهِ. وَلِنَبِيِّهِ. وَلِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَامَّتِهِمْ". ( صحيح. رواه الإمام مسلم وغيره).

ولذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: الرجال ثلاثة: رجل عفيف مسلم عاقل، يأتمر في الأمور إذا أقبلت ويسهب. فإذا وقعت يخرج منها برأيه. ورجل عفيف مسلم ليس له رأي. فإذا وقع الأمر أتى ذا الرأي والمشورة فشاوره واستأمره ثم نزل عند أمره. ورجل جائر حائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين