مشروع نصر قريب : الحلقة الرابعة ، إعلاء كلمة الله

 

تعني عملياً زيادة رفاهية الناس ونفعهم

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ:

مر معنا أن «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». وكلنا يعرف أن كلمة الله خصوصا هي التوحيد وعموما هي القرآن الكريم؟ فما هي حقيقة التوحيد وما هي رسالة القرآن التي إن أعليناها أعلينا كلمة الله؟ لعل رسالة القرآن أوجزها الله سبحانه، وأوجز أوامره ونواهيه في كتابه الكريم بقوله: "إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل – 90 ). فكل من أعلى وأقام العدل أو العطاء والإحسان فهو في سبيل الله.

لست أعرف في هذا السياق كم من المسلمين اليوم يدركون أن الله سبحانه قد جعل سبب إرسال الرسل وإنزال الكتب إنما هو إقامة العدل. قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. وأكد سبحانه المعنى حين أمر بعبادته وحرم الشرك على لسان رسول كل أمة فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

فعبادة الله سبحانه هي العدل والشرك هو الظلم. فالله هو الخالق الرازق الذي يستحق العبادة. وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم: {قلت: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ } لهذا كان الشرك أكبر الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

و أكدت سنة رسولنا صلوات الله وسلامه عليه أن الإسلام لم ينزل إلا إقامة للعدل ومنعا من الظلم. يروي عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، أقطع الناس الدور. فقال حي من بني زهرة، يقال لهم بنو عبد بن زهرة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أم عبد (أي: كيف يبني فقير ضعيف مثل ابن أم عبد داره بيننا، ونحن سادة قريش)!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلِمَ ابتعثني الله إذا؟! إن الله لا يقدس أمة لا يُؤخذ للضعيف فيهم حقه". (حسن صحيح رواه الإمام الشافعي وغيره).

? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ:

إذا تبين ما سبق علمنا أن إعلاء كلمة الله ي تعني إقامة العدل وقمع الظلم والعدوان. وهي تعني تكريم البشر إذ لا أظن أحدا يشك أن إقامة العدل ودفع الظلم ونصرة الضعيف المظلوم تكريم ورفعة لكل البشر. أي أن إعلاء كلمة الله يعني إكرام الإنسان وإعلائه بإقامة العدل ومنع الظلم. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

ولعله من المناسب هنا ملاحظة أن الله سبحانه لم يقل: ولقد كرمنا المسلمين. فتكريم الله لبني آدم عام شامل لكل بني آدم حتى ولو ظننا أنهم لا يستحقونه. وقد بعثنا سبحانه لنعلمهم ونأخذ بيدهم إلى الخير. فنحن أتباع الرسل وهم لم يرسلوا إلا لتعليم الناس الخير. قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48]. يؤكد ذلك حديث الصحيحين أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا»؟!

? أحب الناس إلى الله أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ:

مما سبق نفهم تماما أن المسلم الأفضل هو المسلم الذي يكرم الإنسان أكثر ويعطيه. أي هو المسلم الأفضل لمن حوله من الناس. وأن فضله عند الله سبحانه يزيد كلما زاد نفعه أكثر كَمَّا أو كَيفَا. أي أن فضله عند الله يزيد كلما كان أقدر على فعل خير يشمل كمية أكبر من الناس تشمل الملايين أو المليارات. أو أن خيره وعطاءه يحدث قفزة نوعية في زيادة رفاهية الناس وإسعادهم. وأفضل منه تحقيق الهدفين معا فيشمل الخير أكبر كمية من الناس مع نقله نوعية في رفع سوية حياتهم.

فعن عبد الله بن عمر قال: قيل يا رسول الله! من أحب الناس إلى الله؟ قال: "أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ. وَإن أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، سُرُوْرٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مؤمن. تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبَاً، أَو تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنَاً، أَو تَطْرُدُ عَنْهُ جُوْعَاً. وَلَاِنْ اَمْشِي مَعَ أخي المسلم فِي حَاجَةٍ، أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ شهرين فِي {في هذا الـ} مَسْجِدٍ" {يعني مسجد المدينة}. "وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ. وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ، أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رضا.

وَ مَنْ مَشَى مَعَ أَخِيْهِ المسلم فِي حَاجَةٍ حَتَّى يثبتها لَهُ، ثبت اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ فيه الأَقْدَامُ. وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ ليُفْسِدُ العَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ". (حسن صحيح. رواه ابن أبي الدنيا). ويصبح هكذا واضحا أن "خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ {عز وجل} خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ. وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ {عز وجل} خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ". كما صح عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أخرجه الترمذي وغيره)

وهكذا يكون المسلم خيرا لكل من حوله يسعد هو ويُسعد من حوله، يده العليا تعطي وتبذل. ويبدأ بذله وعطاؤه لأقرب الناس إليه ثم الأقرب فالأقرب حتى يصل للجار والصاحب وابن البلد وهكذا... قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول؛ أمك وأباك. وأختك وأخاك. {و} أدناك، أدناك". (حسن صحيح رواه البزار) وهنا وقفة مع الذات وفي حال ثورتنا هذه فأحدنا لن يكون على شيء حتى يكون نافعا للناس.

? تأخر النصر في ثورتنا:

لعله أصبح واضحا عند الجميع في هذه اللحظة من التدريب أن توقعنا للنصر على حالنا التي نحن عليها اليوم فيه تفاؤل كبير جدا. فلا نحن في العير ولا في النفير. فلم نُفَعِّل قدراتنا الفنية والتقنية ولا نحن بسلوكياتنا نمثل المسلمين. وهكذا دخلنا الفرن العالي الذي يصهر الحديد ليخرج شوائب نفوسنا منا. فيعود معدننا الأصيل فولاذا لا يقبل الصدأ. من هنا تأتي التذكرة بحقيقة المسلم ورسالته في السلم والحرب والهزيمة والنصر.

فكن يا رعاك الله أحب إلى الله سبحانه وكن كما وصفك رسول الله صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم حين قال: "مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك". (حسن - صحيح الطبراني) وقال: "مَثَلُ المؤْمِنِ كَمَثَلِ العطَّارِ {إن شاورته نفعك و} إِنْ جَالَسْتَهُ نَفَعَكَ، وإِنْ مَاشَيْتَهُ نَفَعَكَ، وإِنْ شارَكْتَهُ نَفَعَكَ {وكل شيء من شأنه منافع}". ( صحيح لغيره رواه الطبراني وغيره )

بل رفع رسولنا صلى الله عليه وسلم  المؤمن إلى درجة يصبح فيها مثل النخلة حتى إطراحها نافعا للناس. فعبر بذلك عن حقيقة المؤمن من جهة وأشار لنا من جهة أخرى كي نستخرج اليوم غازات تولد الكهرباء ومواد تسميد للنباتات. قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ: حَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ...

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ الْقِطْعَةِ {الجَيَّدَةِ} مِنَ الذَّهَبِ {الْأَحْمَرِ. أُدْخِلَتِ النّارِ فَنَفَخَ} عَلَيْهَا صَاحِبُهَا {فَخَرَجَتْ طَيِّبَةً لَمْ تَغَيَّرْ. وَوُزِنَتْ} فَلَمْ تَنْقُصْ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ؛ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا. وَوَقَعَتْ (على عود نَخِرٍ) فَلَمْ تَكْسِرْ وَلَمْ تُفْسِدْ". إلى آخر الحديث الثابت من رواية أحمد.

? رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ:

انهض أيها الكريم فأظهر كرمك وفضلك وأصالتك. وكن أيها البطل كما تحب أن تكون نحلة لا تأخذ إلا خيرا لا تطرح إلا خيرا. وانس للحظة حظ نفسك. وتذكر أنك إذا فضلت المصلحة العامة على حظ نفسك فستحفظ حظ الجميع وحظ نفسك. وأنك لا سمح الله لو حرصت على حظ نفسك فلن تكون إلا خاسرا ووبالا على نفسك ومن حولك. وفي الآخرة لن ينالك إلا الخسران المبين.

فكما أن الأخوين إن فتحا دكانا واحدا لبيع الملابس انضم رأس مالهما لبعض فاشتريا البضاعة بسعر أرخص فحققا ربحا أعلى وتقاسما وقت العمل فعمل كل واحدا منهما نصف الوقت بدل العمل طول الوقت وحده. وكذلك أنت تربح حين تنضم إلى من حولك وتشكل فريقا قويا فتربحون وتربحون جميعا. وترضي ضميرك وترضي ربك. وتكون قادرا أيضا على نشر الخير لكل الناس من أهلك وأهل بلدك. وتكون هكذا بطلا على الحقيقة وتحقق إسلامك كما تحب وتكون رحمة للعالمين كما بعثك الله؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فإذا طبقت أنا وأنت على نفسنا ما ندعو الناس له. وطبقنا عمليا حقيقة المسلم. وتذكرنا في كل لحظة أن المسلم رحمة للعالمين. فكنا رحمة حقيقية لأهلنا وللناس من حولنا. يومها يصبح النصر قريبا جدا من يدينا. فالذي يمنع قدراتنا الفنية من المشاركة الفعالة في الثورة إنما هو أمراضنا النفسية وسقوطنا في كبيرة أن نقول ما لا نفعل. وسقوطنا في تلك الكبيرة أبعدنا عن ذكر الله فصارت حياتنا شاقة صعبة ضنكا؛ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين