مشروع نصر قريب : الحلقة الخامسة : يغصبوا المسلمين أمرهم

وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ:

لا شك أن الشورى جاءت في سياق آيات وسباقها ومعناها يجعلها بمنتهى الوضوح في الغرض والمحورية الحاسمة في تشكيل الأمة المسلمة. فقد وردت في سياق تعداد صفات المؤمنين الأكثر التصاقا بهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } ( الشورى - 39)

فيكفي إذا لإدراك أن الشورى يجب أن تعم جميع المسلمين أن نتذكر أن الاستجابة لله سبحانه هي الشرط الأول للإيمان الذي يجب أن يعم كل المسلمين. والصلاة هي التي على كل مسلم أن يؤديها لتكون الفيصل بينه وبين الكافر. وقد جائتا في وصف المؤمنين مع الشورى في آية واحدة. أي أن هذه الصفات هي صفات كل المسلمين مهما قل شأنهم أو علمهم أو على.

ومن الجدير بالتأكيد عليه لتوضيح الصورة أكثر أن الله سبحانه ثم رسوله حين يتكلم لفظا فهو يقصده. ولا يقصد المعاني القريبة منه أو المعادلة له. وهو سبحانه حين استخدم وصف: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ... فوصفهم بأن أمرهم شُورَى بَيْنَهُمْ قصد ذلك. ولو أراد سبحانه أن يجعل الشورى في العلماء أو في أهل الحل والعقد لقال ذلك ببساطة.

ألا ترى أنه سبحانه قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. ولو أراد أن يجعل الشورى في العلماء لقال بنفس الطريقة: وأمرهم شورى بين علمائهم أو ما شابه ذلك. أما أنه لم يفعل فلزم أنه قصد بالشورى بين كل من اتصف بتلك الصفات التي تشمل كل المسلمين. ومنه ندرك المروي في تراثنا: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ ( رضي الله عنه ) يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حتى إذا تتبعنا صحيح السنة عرفنا بوضوح إذا ما كانت الشورى عنده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملزمة أم معلمة من جهة. كما توضح لنا السنة لو تتبعناها أيضا إذا ما كانت الشورى خاصة بأهل الحل والعقد أم لا. ولعل من عجائب الكثير من المسلمين اليوم حتى أكثرهم تدينا وعلما، فقد القدرة على الاستفادة من آية الشورى الكريمة هذه. وفقد القدرة على الاستفادة من السنة الشريفة.

بل لقد وصل الحال ببعضهم أن أفقدها معناها تماما فاعتبر الشورى مُعلِمة. أي أن القائد يستشير من حوله ثم يخالفهم ويتخذ القرار بمنتهى الفردية إذا أراد. ويكتفي استفادة من الآية الكريمة أنه استمع! وبعضهم أفقدها الجزء الأكبر من معناها حين قيدها بغير مقيد في جزء صغير جدا من المسلمين وهم أهل الحل والعقد. فخلط بين التطبيق وآليته. فاستشارة الكل في كل حين أمر غير ممكن كما هو واضح. فنظمه المسلمون حيناً من الدهر بممثلي الناس أو ما أطلقوا عليه: أهل الحل والعقد كما سيأتي.

مُحَذِّرُهُمْ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أَمْرَهُمْ:

لعله لا غرابة بعد أدلة الكتاب والسنة السابقة أن كانت هذه المفاهيم واضحة جلية جدا عند سلف الأمة ففتحوا العالم. في مقابل ذلك الوضوح كم من المسلمين اليوم يعرفون أن أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيد كهول أهل الجنة بدأ ومنذ أيام خلافته يخطط في آخر حجة حجها ليحذر المسلمين من تهميشهم أو اختطاف قراراهم؛ يريد رضي الله عنه أن يبقى الإسلام على جمالة وصفائه ونقائه شوريا يختار الناس فيه حكمهم ولا يفرض أحد عليهم شيئا.

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنَّ رَجُلًا أَتَى {أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ} عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ: {هل لك في} إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه بَايَعْتُ فُلَانًا. {فَوَ اللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ، إِلَّا فَلْتَةً، فَتَمَّتْ. فَغَضِبَ}، فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه: إِنِّي قَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أَمْرَهُمْ. ثم بدل رضي الله عنه رأيه تبعا لنصيحة عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه: لَئِنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ سَالِمًا صَالِحًا، لَأُكَلِّمَنَّ بِهَا النَّاسَ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ.

ثم خطب رضي الله عنه في المدينة منبها المسلمين على أهمية رضاهم عن حكمهم. ووجههم لينقلوا وينشروا تلك الحقيقة لتصل حتى أبعد الناس فقَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَائِلٌ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي. فَمَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ... وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: {وَاللهِ} لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه، بَايَعْتُ فُلَانًا! ثم وضع رضي الله عنه قاعدة الحكم في الإسلام فقال: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ. تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا.

ثم تحدث رض عن بيعة أبي بكر بالتفصيل ثم عاد فأكد القاعدة الإسلامية بوضوح تام فقال: فَمَنْ بَايَعَ أَمِيرًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَيْعَةَ لَهُ وَلَا بَيْعَةَ لِلَّذِي بَايَعَهُ؛ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ. تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا. ( رواه أحمد والبخاري ) وغيرهما. هكذا يتضح أن المسلمين العاديين البسطاء هم صناع قرار الحكم في البلد بحسب القرآن الكريم وفعل الرسول -صلى الله عليه و سلم- ونصوص الصحابة.

أهل الحل والعقد:

يخطأ الكثير من المسلمين اليوم ومنهم طلاب علم في فهم مصطلح "أهل الحل والعقد" ويظنون أنه يجعل الحكم بيد هؤلاء لأنهم أهل علم وليس بيد الناس. ولا يدرك هؤلاء المساكين أن "أهل الحل والعقد" هم في الحقيقة  ممثلو الأمة. فقد رأينا كيف نصت نصوص الكتاب والسنة وفهم السلف أن الناس العاديين هم صناع القرار. وسيأتي بعد أسطر قوله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة: "أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي؛ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ" فجعل قرار الحرب والسلم بيد مسلمين لم يمض على إسلامهم شيء!

فينسف هذا الحديث الشريف وكثير غيره أكبر شبهة عند الذين يستغربون أن يكون الشخص العادي كالأمي أو المجرم أو الراقصة لهم صوت في تسيير شؤون الأمة تماما مثل صوت العالم الفاضل. إذ لو كان لاستغرابهم وجها لما صح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول قوله السابق وهو أعلم أهل الأرض ويأتيه وحي علام الغيوب. لكن الحقيقة أن علام الغيوب سبحانه هو الذي أمره بمشاورتهم: {... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...} [آل عمران: 159] مما يدل أن استغرابهم لا وجه له.

يؤيد ما سبق أن استغرابهم لم يبذل قائله وقتا وجهدا كافيا للتفكر فيه ودراسته دراسة واعية متأنية. ودليل ذلك أمرين: أولا أنه جمع بين المجرم الذي يجرده القانون من حق الانتخاب أصلا وبين بسطاء الناس أصحاب الحق بالتصويت. ثانيا: أن قائله يستسهل الرفض ولكنه لم يفكر بالبناء. أي أنه لم يشرح لنا مثلا: ما هي الطريقة السليمة لاتخاذ القرار.

و فقدان القدرة على بيان الطريقة السليمة لاتخاذ القرار قضية عامة يقع فيها كل من يرفض التصويت. فتراهم لا يشرحون لنا كيف يجب ان يتخذ القرار أو يحسم الخلاف. ولو سلمنا لهم بأن العالم الفاضل يجب أن يأخذ وزنا أكبر في التصويت فهل هذا يعني أن البسطاء لا صوت لهم؟ أم أننا نضع صوتا للعامي وعشرة للعالم؟ وإذا تفاوت العلماء فماذا نفعل؟ نعطي عالما عشرة أصوات وآخر ألفا؟ ومن يقرر أي العلماء يحصل على أي كمية من الأصوات؟؟؟

والحق أن العالم الفاضل لا يمكن أن يكون بوزن الأمي العامي البسيط. ولكنه لا يأخذ وزنه بتميزه عن الناس واستعلائه وانفراده بالتصويت دون الناس. وإنما يأخذه بمقدار انتشال الناس من الجهل وبذله علمه ونشره للخير بين الناس فيصبح بذلك معروفا بينهم. ويصبح هكذا صوته بمليون صوت وأكثر فقد عرفت الجماهير فضله. وحين تعرف أنه سيصوت على الموضوع الفلاني بالشكل الفلاني وهي تحبه وتحترمه وتعرف أنه أعرف بالخير منها ستتابعه على رأيه وتدلي بأصواتها مثله.

أما إن لم تقتنع الناس به ولا برأيه فهذا دليل على أحد أمرين: إما أنه ليس عالما أصلا ولكنه المسكين يتصور نفسه عالما. وإما أنه عالم فعلا لكنه لا يعرف كيف يعلم الناس! أي أنه عالم عاجز. خاصة أننا اليوم في عصر التواصل والإعلام وما أسهل أن يصل العالم للناس. وفي كلا الحالين لا يستحق مثله أن يأخذ وزنا أكثر من وزنه! فآلية التصويت إذا هي الآلية الحيادية العادلة التي تعطي فضلاء العلماء حقهم العادل مادامت حرية التعبير متاحة. لذلك وجب على الجميع ضمان حرية التعبير والقتال للحفاظ عليها كما علمتنا السنة الشريفة كما سيأتي.

 

أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا:

و لفهم موضوع "أهل الحل والعقد" أكثر لا بد من الرجوع بالتاريخ إلى وضع المجتمع العربي في الجزيرة العربية الذي ظهر فيه الإسلام حيث القبلية والعشيرة. ومعلوم في هذه الحال أن رئيس القبيلة هو بطريقة أو بأخرى الممثل الشرعي لقبيلته. فقبيلته هي من انتخبته أو اختارته ليكون ممثلا لها. وحين تكبر القبيلة تصبح عشائر. ويصبح رئيس العشيرة منتخبا أو ممثلا عن عشيرته. من هنا نجد أن الرسول -صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم- في حديث بيعة الْعَقَبَةَ الثابت الذي رواه الإمام أحمد يبايع الأنصار ثم يقول:

"أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ". أي بلغتنا المعاصرة: أخرجوا إلي ممثليكم. فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ تِسْعَةً مِنْ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنْ الْأَوْسِ ذلك أن الخزرج أكبر من الأوس. وفي نفس الحديث يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار: "أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي؛ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ". فجعل قرار الحرب والسلم في أيديهم. وهو دليل ظاهر على أن القرار هو قرار الأمة. وأن مهمة القيادة حياطة الأمة وتمكينها من تحقيق إرادتها.

مما يعني أن الفهم الصحيح للواقع الذي ظهر فيه الإسلام يظهر أن رؤساء القبائل والعشائر المنتخبين داخليا هم ممثلو قبيلتهم أو عشيرتهم. وأن الانتخابات في تلك الأيام قبل ألف وخمس مئة سنة لم تكن ممكنة بغير تلك الوسيلة. فلم تكن عندهم هواتف ولا انترنت ولا طائرات.. الخ. وهكذا ظهر مصطلح: "أهل الحل والعقد". وهو يعني في لغتنا المعاصرة: ممثلو الأمة المنتخبون داخل كل وحدة من وحداتها على حده.

إذا تبين ذلك وجدنا أن الأمة استفادت من كتاب ربها لفترة وعملت فعلا بالشورى التي شملت كل الأمة وبآليات قريبة جدا من آليات الانتخاب في الدول المتقدمة اليوم أو ما يسمى صناديق الاقتراع. فاستشارة كل فرد غير ممكن عمليا كما مر. فوجب أن يكون لكل عدد محدد من الناس ممثلا يمثلهم. كان حينها ينتخب داخل مؤسسة القبيلة أو العشيرة. فنص العلماء أن هؤلاء الممثلين هم من ينتخب أو يبايع الخليفة.

تماما كما هو وضع الانتخابات الرئاسية اليوم في أمريكا مثلا. فكما تعلمون أن الرئيس الأمريكي لا يُنتخب من الشعب مباشرة وإنما يُنتخب من "الكتورال كولج Electoral College" أو ممثلي الولايات الذين هم بدورهم يُنتخبون في ولاياتهم بحسب قوانين كل ولاية. ثم طال علينا الأمد فنسينا أن أهل الحل والعقد هم ممثلون منتخبون بشكل يناسب الواقع التاريخي في أيامهم. وأنه قد يستعاض عنهم اليوم بانتخابات عامة مباشرة. أو انتخابات لأهل الحل والعقد ثم هم ينتخبون بدورهم الخليفة على طريقة بعض الدول المتقدمة. وقد أصل هذا الفهم عشرات من العلماء المعاصرين.

فلا مانع إذن أن يختار المسلمون الإمام بالطريقة التي يرون أنها الأصلح لهم مادام الأصل الذي هو أن الشعب صانع القرار مصان. فإما أن يختار الشعب الرئيس بشكل مباشر حسب ما يطرحه من برامج وخطط وحسب سيرته الذاتية وانجازاته. أو يرشح الحزب الذي نال الأغلبية في مجلس الشعب الرئيس. أو يختار الشعب ممثلين وهم يختارون بدورهم الرئيس. كذلك طريقة اختيار أهل الحل والعقد أو الممثلين قد تختلف؛ إذ ان طرق اختيارهم عديدة.

وطبعا سيكون كل مُنتَخَب تحت الملاحظة والمراقبة؛ فإن أحسن فيتم تجديد الانتخاب له و إن أساء فيتم اختيار شخص آخر مكانه بديلا عنه. فالعبرة في الأمر أن مَن اختارهم الناس هم من يتحملون نتيجة اختيارهم لفترة محددة، يحق لهم بعدها أن يبدلوه أو يستمروا في التصويت له. وهكذا يكون مبدأ المسؤولية قائما مطبقا؛ فلا يمكن تخيل استمرار شخص في منصبه سواء أصاب أو أخطأ، تكاسل أو عمل؛ فاستمرار الفاشل مخالف للشرع وللعقل وللمصلحة.

الشورى الثورة والشعب والثوار:

قامت الثورة في سوريا لإزاحة الظلم عن الناس كل الناس. أي أن الثورة مشروع بناء نظام حكم عادل. من هنا يجب علينا أن ندرك من هو مالك المشروع ومن هو المهندس ومن هو المقاول. فإذا كان الثوار هم المقاول وهم عمال البناء. والمفكرين المتخصصين هم المهندس صاحب الخرائط والتصاميم. فمن هو مالك المشروع يا ترى؟ ومن هو صاحب القرار النهائي؟ لعل أحدا لا يخالف أن مالك المشروع صاحب القرار هو الشعب دائما.

وملكية الشعب للمشروع وبالتالي للقرار النهائي هو عين العدل. فبحسب القواعد الأصولية: المغنم على قدر المغرم . فإذا كان الشعب هو من يدفع ثمن الحرب أو السلم. وهو من يدفع ثمن السياسة الاقتصادية هذه أو السياسة الاقتصادية تلك. فطبيعي إذا وعدل أن يكون دافع الثمن هو صاحب القرار. إذ كيف يتخيل أحد شيئا غير هذا؟ من هنا نفهم ونقدر أكثر وأكثر قيمة قول الله سبحانه في الآية السابقة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

الشورى التصويت وقرار المؤسسة:

بعد ما سبق يأتي موضوع مهم جدا له علاقة مباشرة بالعمل المؤسسي والتناغم قلَّ من ينتبه له من الناس. فالطبيعي بحسب ما سبق أن يقوم العمل المؤسسي على الشورى وأخذ وجهات النظر المختلفة ومناقشتها. فإن اتفق الجميع على نظرة واحدة صاروا إليها. وإلا صير إلى التصويت لصناعة القرار الرسمي في المؤسسة.

هذا التصويت سيجعل وجهة نظر معينة نالت ثقة الغالبية ليصبح القرار الرسمي لها لكنها في نفس الوقت ليست قناعات من كان يخالفها قبل التصويت فماذا نفعل؟ هل تتشظى المؤسسة عند كل قرار؟ أم أنها تصبح فوضى يدافع فيها كل واحد عن قناعاته حتى لو كانت خلاف قرار المؤسسة الرسمي؟ أم ينسحب من المؤسسة من خسر في التصويت؟! لا شك أن العاقل لن يقبل أيا من الاحتمالات السابقة التي تقتل أصل فكرة العمل الجماعي المشترك. فما الحل إذا؟

الحل هو أن القرار الذي وثقت به الغالبية وأصبح قرارا للمؤسسة، على الجميع في المؤسسة العمل على إنجاحه حتى من خالفه قبل التصويت. فحتى لو أحببتُ أن أنتخب عمروًا ليكون الهداف في فريقنا واختارت الأغلبية زيدا فهذا لا يعني تركي للفريق. كما أنه لا يعني ألا أرسل له الكرة. فعدم إرسال الكرة له وعدم مساعدته على وضع هدف في شباك الخصم سيجعلنا جميعا نخسر؛ ويجعلني شخصيا أخسر بخسارة فريقي.

أما اللاعب الفائز في الوضع الطبيعي للفِرَقِ الرابحة فيعمل مع فريقه على إنجاح القرار الذي تبنته الأغلبية لننجح جميعا بنجاحه أو يثبت الواقع فشله. وحينها نعود إلى طرح البديل. فالعمل على إنجاح قرار الأغلبية لا يعني تغيير القناعات بالضرورة. ولكنه يعني العمل الجاد المخلص على إنجاحه بأي طريقة وعدم وضع معوقات في طريقه إلى أن يثبت فشله. وحينها نعود للمناقشة والشورى والتصويت. وفي هذه المرة قد تتبنى الأغلبية الرأي الآخر؛ وحينها سيقوم آخرون بإنجاح قرار كانوا ينادون بخلافه. وهكذا.

مما سبق ندرك كيف رجع رسول الله -صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم- في غزوة أحد إلى رأي الأغلبية مع أنه كان خلاف رأيه. لكنه مع ذلك عمل بكل ما يملك على إنجاح قرار المؤسسة الذي كان خلاف رأيه. ثم أثبت الواقع أن رأيه -صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم- هو الصواب. لكن كل ذلك لم يكن داعيا للتشظي ولا للانقسام الداخلي ولا للانسحاب من المؤسسة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين