مسلمة بن عبد الملك مجاهد على الدوام

روى الإمام أحمد أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : جعل رزقي تحت ظل رمحي . والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنى ترجو أن يكون صوابا من الله : وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان ، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه ، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل ، والعامة تقول : المال السايب يعلم السرقة وكذلك قيل : من لم يتذأب أكلته الذئاب . 

فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره ، وسكنه ووطنه ، وزرعه وضرعه ، وكل ما يحوزه ويملكه  يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده ، مستظلا بسلاحه ورماحه ، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم : سورة الأنفال الآية 60 وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ 

وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها ، ولكنها خطة يدفع إليها بغي الباغين وظلم الظالمين ، ولذلك قال الله تعالى في التنزيل المجيد : سورة البقرة الآية 190 وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقال أيضا : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة البقرة الآية 194 

وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد ، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط ، أو على أرض الميدان ، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية ، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال ، فقال :  خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها سنن الترمذي فضائل الجهاد (1652) ، سنن النسائي الزكاة (2569) ، موطأ مالك الجهاد (976) ، سنن الدارمي الجهاد (2395). . 

وهذا : واحد من أبناء الإسلام ، وأتباع محمد  عليه الصلاة والسلام  يظل أكثر من خمسين عاما يحمل سلاحه ، ويسدد رماحه ، ويذود عن حمى الدين ، ويصون حرمات المسلمين ، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين : إنه البطل القائد ، الأمير الفاتح أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي ، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم ، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهر النيل . 

وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره ، بل من أبطال الإسلام المعدودين ، حتى كانوا يقولون عنه أنه خالد بن الوليد الثاني ، لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه ، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري : روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة : كان شجاعا صاحب همة وعزيمة ، وله غزوات كثيرة المرجع السابق . ويقول عنه ابن كثير : وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة ، ومساع مشكورة ، وغزوات متتالية منثورة ، وقد افتتح حصونا وقلاعا ، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا ، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه ، وفي كثرة مغازيه ، وكثرة فتوحه ، وقوة عزمه ، وشدة بأسه ، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه ، وهذا مع الكرم والفصاحة البداية والنهاية ج9ص328و329 ، ويقول عنه صاحب العقد الفريد : ولم يكن لعبد الملك ابن أسد رأيا ، ولا أزكي عقلا ، ولا أشجع قلبا ، ولا أسمع نفسا ، ولا أسخى كفا من مسلمة [العقد الفريد ، ج7 ص145] . 

ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده ، وفيهم مسلمة ، فكان مما قاله لهم عنه : يا بني ، أخوكم مسلمة ، نابكم الذي تفترون عنه ، ومجنكم الذي تستجنون به ، أصدروا عن رأيه [مروج الذهب للمسعودي ج3ص161] . 

ومع أن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه ، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه ، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي : كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته . وليست العبرة بالمناصب والمراتب ، ولكنها بالإرادة والعزيمة ، والإقدام ، وعمق التفكير ، وحسن الخلق . 

وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء ، لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام ، مع الرأي والدهاء ؛ ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين العبر ج1ص154 ، ظل يواصل الجهاد ، ويتابع المعارك ، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين وظل مسلمة على هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة . 

وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها : 

في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم . وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم ، ومعه يزيد بن جبير ، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة ، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني ، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة ، فقتل منهم بشرا كثيرا ، وفتح الله على يديه حصونا . 

وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم تسمى طوانة ، في شهر جمادى الآخرة ، وشتوا بها ، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك ، وهزم المسلمون أعداءهم ، ويروى أن العباس قال لبعض من معه : أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة ، فقال له : نادهم يأتوك . فنادى العباس : يا أهل القرآن . فأقبلوا جميعا ، فهزم الله أعداءهم . 

وفي سنة ثمان وثمانين أيضا غزا مسلمة الروم مرة أخرى ، ففتح ثلاثة حصون ، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة ، وحصن الأخرم انظر تاريخ الطبري، ج6 ص426 ، 429 ، 434 ، 436 على التوالي . *وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى ، حيث فتح حصن سورية ، وقصد عمورية ، فوافق بها للروم جمعا كثيرا ، فهزمهم الله ، وافتتح هرقلة وقمودية . 

وفي سنة تسع وثمانين أيضا غزا مسلمة الترك ، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان ، ففتح حصونا ومدائن هناك . 

وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة ، ومع عمر بن الوليد ، أرض الروم ، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون ، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم . 

وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، فافتتح ماسة ، وحصن الحديد ، وغزالة ، وبرجمة من ناحية ملطية على التوالي . [تاريخ الطبري ج 6 ص439وص441وص469] 

وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا ، وفتح حصنا يقال له : حصن عوف . 

وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية . 

وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية ، وطال الحصار ، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة . 

وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها . 

وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند ، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقيين ثم أرمينية . 

وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك ، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله تاريخ الطبري ج7 ص43 و 54 : . 

وفي سنة عشر ومائة أيضا قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان ، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوا من شهر ، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء ، ورجع مسلمة سالما غانما ، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام ، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين ، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة ، وتوحل فيها خلق كثير ، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما البداية والنهاية : ج9 ص 259 . 

وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان ، وبث فيها الجيوش ، وفتح مدائن وحصونا ، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر تاريخ الطبري ج 7 ص 88 . 

وفي سنة ثلاث عشرة أيضا توغل مسلمة في بلاد الترك ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها البداية والنهاية ج9 ص304 : . 

وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم ، ففتح حصن مطامير : البداية ج9 ص326 : . 

رواية الحديث عن الخليفة الخامس 

أرأيت . . . إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب ، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات . وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال ، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال ، ومع ذلك كان عالما محدثا ، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم : عبد الملك بن أبي عثمان ، وعبد الله بن قرعة ، وعيينة والد سفيان بن عيينة ، وابن أبي عمران ، ومعاوية بن خديج ، ويحيي بن يحيي الغساني البداية والنهاية ج9 ص328 . 

ويظهر أن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل ، المخلص الأمين ، خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة ، تكوينا باهرا رائعا ؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبر والتوفيق ، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله ، ووهبهم توفيقا ورشادا . ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ : جزاك الله ، يا أمير المؤمنين عنا خيرا ، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية ، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا العقد الفريد ج3 ص183 : . 

وهذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين رضوان الله تبارك وتعالى عليه .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول  رجب 1395هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين