مستلزمات الدعوة الإسلاميَّة

إنَّ قيام المسلمين بالدعوة الإسلاميَّة يستلزم أركانًا ثلاثة لا غنى عن أحدٍ منها وهي:

1 – إعداد الوسائل والأجهزة في كل عصر وبيئة بحسب حاجتها.

2 – أن تكون حياة المسلمين قدوةً وتفسيرًا عمليًّا لأوامر الإسلام.

3 – إعداد الحماية اللازمة للدعوة.

- فأمَّا الركن الأول، أي الوسائل والأجهزة فأمره واضح، وهو يشمل إعداد الدعاة الصَّالحين لكلِّ قوم بلغتهم أو بلغة يفهمونها، واستخدام وسائل الفن الإعلامي بمختلف أنواعها، ووضع المؤلفات التي تشرح الإسلام بدرجات مختلفة في البسط والأسباب للمبتدئين ومَنْ فوقهم لكلٍّ بحسبه، وبالأسلوب الذي يناسبه من طرق الفهم والإقناع وَفْقًا للمنهج السامي الذي أشار إليه القرآن العظيم بقوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]

وفي بحث هذه الوسائل المقرَّرة مجالٌ كبيرٌ للتفصيل والاستقصاء.

- وأما الركن الثاني، وهو أن تكون حياة المسلمين قدوة، فهذا ضروري وهو أشدُّ ضرورة للدعوة في الخارج، إذ لا يعقل أن يستجيب المدعو الأجنبي إلى دعوة يرى أن دعاتها لا يعملون بها في بلادهم وإنما هي لديهم للتصدير فقط!

فأول واجب على المسلمين شعوبًا وحكامًا، إن أرادوا القيام بواجب الدعوة؛ لكي يصدقهم المدعوون هو أن يطبقوا في بلادهم الإسلام في حياتهم الفعليَّة أخلاقًا ونظامًا وتشريعًا، وأنَّ نظام الإسلام وتشريعه لا يقصر عن حاجة زمنيَّة لمرونة أصوله، وسنَّة قابليَّاتها، يعرف ذلك العلماء المستنيرون فيمكن أن يعطي التطبيق أحسن قدوة ومثل، إذا أحسنت تربية الفرد المسلم تثقيفًا وتوجيهًا إسلاميًّا.

- وأما الركن الثالث، وهو الحماية اللازمة للدعوة، فهذا هو الدعامة للركنين الأوَّلين، إذ لا وسيلة تنفع، ولا موعظة تُسمع، إذا لم يكن لها سند من قوَّة تحميها وتشد أزْرها في وجه خصومها وأعدائها، وإلا داستها الحوافر.

ومن ثَمَّ شرع الله الجهاد في الإسلام لحماية الدعوة وإمكان إيصالها إلى الآذان وشرحها للأفهام في رويَّة وأمان، ولئن أعلن القرآن أن: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ﴾ فقد قال أيضًا للمسلمين: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"(1)، وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام كلها جهادًا في سبيل الدعوة إلى الله بالأموال والأنفس وسائر الطاقات والإمكانات.

والحماية المطلوبة للدعوة وأهلها ليس من الضروري أن تكون حربًا بالسلاح، بل إنَّ من الحماية: المناصرة، والدعم، والتأييد، بما يمكن من الوسائل في كل ظرف بحسبه، فهناك الطرق السياسية المباشرة، وهناك وسائل الإعلام في الداخل والخارج، وهناك المقاطعة الاقتصادية، أو الضغط الاقتصادي، وهناك اللجوء إلى المنظمات الدولية، وهناك استصراخ الأنصار، وهناك الاستعانة بخصوم الخصوم، وهناك شراء الأصوات عند الاقتضاء، وهناك وهناك ما لا يعد ولا يحصى من وسائل الحماية والدعم، إذا خلصت النية، وتوافرت العقيدة الإسلاميَّة الجامعة الدافعة، وصحَّت العزيمة على مناصرة الإسلام وأهله وحماية المد الإسلامي ودعوته السلمية من العدوان عليها.

ولكنَّ هذه الحماية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل شعور إسلامي موحَّد، يحس به المسلم فردًا وشعبًا وحاكمًا، بما يقع على أيِّ مسلم آخر من عدوان، وهذا ما يفقده المسلمون اليوم في ظل القوميات الزائفة المنحرفة التي قطعت أوصالهم، والتي أصبحت شعارات مريبة، وستارًا يتستَّر به كل ذي غرض إلحاديٍّ خبيث إلى جانب ذي المقصد البريء.

ففي الهند مثلًا ينظم الهندوكيون الوثنيون المجازر الجماعية للسملين يذبحون عشرات الآلاف في المجزرة الواحدة، ثم يُستقبل حكام الهند الذين لم يحركوا ساكنًا استقبال العظماء الحلفاء في البلاد الإسلاميَّة والعربيَّة، ويشاد بتقدميتهم.

وفي قبرص يذبح المسلمون وتشنُّ عليهم حملات الإبادة أو الطرد، فيُستقبل حاكم قبرص الصليبي المتعصِّب استقبال الأشقاء، ويعانق عناق الأحباب في البلاد الإسلاميَّة والعربيَّة!

وفي زنجبار البلد العربي في قلب أفريقيَّة يحيك له الاستعمار مؤامرة حملة صليبيَّة مُقَنَّعة بالشيوعيَّة تذبح فيها الرجال وتستصفي النساء والأموال، ويستلحق البلد بجارته المعتدية، فلا يسمع للمسلمين من عرب وغيرهم صوت استنكار، أو سؤال عما جرى بهم، بل يبارك عمل جزاريهم أو يمدح باعتبار أنه حركة وثورة تقدميَّة وامتداد لمد عقائدي شيوعي على الرغم من أن زنجبار بلد عربي يستحق أهله حماية القوميَّة العربيَّة على الأقل من دعاتها.

وفي الحبشة تُشنُّ حملة صليبيَّة صهيونيَّة استعماريَّة لمحو المسلمين فيها وهم الأكثريَّة، وتستلحق أريتريا المسلمة استلحاقًا بقوَّة الحديد والنَّار، وتباد القرى بمن فيها من رجال ونساء وأطفال، ويُستولى على أموال المسلمين، وتُقدَّم أراضيهم إلى الشركات اليهوديَّة، لتنشئ فيها مزارع ومشاريع، ويجعل في أديس أبابا العاصمة تل أبيب ثانية للمنطلق الصهيوني في أفريقيَّة، ومع كل هذا يُستقبل هيلاسلاسي جزَّار الاستعمار الصليبي الصهيوني استقبال الإخوة المتلاقين بعد طول الغياب في البلاد العربية!! بل إذا اختصم بلدان عربيان في أفريقية يجعل هو الحكم بينهما باختيارهما لأنه صديق الطرفين...!!

ولو أنَّ المسلمين في أقطار الأرض، بل لو أن العرب منهم فقط، صرخوا كل منهم صوتًا واحدًا استنكارًا لهذه الاعتداءات الصارخة على حقوق الإنسان التي يقال: إنها يحميها ميثاق الأمم المتحدة، بهروا المنتدى بأصواتهم وشدهوه واضطروه للتوقف.

ومثل ذلك يقال في تشاد التي قامت فيها ثورة لحماية الأكثريَّة الإسلاميَّة من الحكام الصليبين.

فواقعنا المؤسف هو أنَّ الدول الإسلاميَّة ذات الوزن، ومنها الدول العربية نفسها، تستحيي من أن تستنكر باسم الدين عدوانًا على المسلمين، وإن كان هذا العدوان يمارس بدافع الصبغة الدينيَّة الواضحة، بينما أنَّ الفريق الآخر لا يستحيي من أن يتدخل باسم الدين لحماية فئة قليلة من المتنصِّرة تريد أن تنشق في جنوب السودان، وفي إقليم ديافرا في نيجيريا.

إخواني: هذه أحداث أشرت إليها إشارة دون تفصيل لأنها أصبحت مشهورة لا يجهلها أحد.

ولكن المهم هو أن نعرف أنَّ الدعوة الإسلاميَّة تحتاج إلى عنصر الحماية، وإلى عدم استحياء المسلمين من التناصر بسبب الإسلام إذا اعتُدي على أهله أو دعاته، ولو كان هذا التناصر بالقول والاستنكار المتآزر الإجماعي إن لم يكن هناك وسيلة للمناصرة سواه، وهذا أضعف الإيمان

إنَّ لكل مذهب من المذاهب الدينيَّة أو العقائديَّة الحديثة قوة من السلطات الدوليَّة، تمدُّه وتحميه اليوم، سوى الإسلام الذي أصبح يتيمًا فاقد الحماية بين أهله.

فالكاثوليكية من ورائها قوى هائلة دولية تتبناها وتعيش لها، وتؤيدها وتمدها وتُبشِّر بها.

والبروتستاتنية من ورائها العالم الأنكلو سكسوني والألماني والأميريكاني، تتبنَّاها دساتير تلك الدول والقوى العالمية الكبرى، وتمد منظماتها في العالم، بالإمدادت الهائلة، وتمهِّد لها بالضغط السياسي سبل الامتداد.

والأرثوذكسية كانت روسيا القديمة تعلن نفسها أنها حاميتها في العالم ولا يزال لها اليوم طرق دعم أخرى.

والشيوعية وراءها العالم الشيوعي الهائل بكل ثقله وأساليبه الصريحة والخفيَّة.

أمَّا الإسلام فهو اليتيم بين أهله، ولا يوجد دولة منهم تعلن أنها مسؤولة عن حياته وحمايته وكل تلك القوى الاستعماريَّة تجنِّد كل إمكاناتها لغزو الإسلام في عقر داره سياسيًّا وفكريًّا، وتتوزَّع الحملة.

فهذه اليوم تلك الحملة الصليبية الكبرى تجنِّدها الدول العظمى لتنصير أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم وتستغل فقرها وتخلفها، وحاجتها للقروض، وتفرض عليها شروطًا لإطلاق حرية التبشير، وتنطلق فيها جميع كنائس العالم بشتى أوجه نشاطاتها وإغراءاتها، وتصرح الصحف الأميريكية منذ نحو عام بأنهم يقدرون للفراغ من تنصيرها كلها خمسين عامًا، ثم يتوقعون بحسب ما رأوا من مقاييس السير أن لا يحتاجوا إلى هذه المدة.

هذا يكون تحت سمع المسلمين وبصرهم من دول عربيَّة وغير عربيَّة دون أن يتحرَّك منهم ساكن بفضل دعوة القوميَّة.

(1) رواه أبو داود في الجهاد (2532)، من حديث أنس بن مالك، وفيه: «والجهادُ ماضٍ منذ بعثني اللهُ إلى أن يُقاتِلَ آخرُ أُمَّتي الدَّجَّالَ، لا يُبْطله جَورْ جائر وعدلُ عادل» وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 377): قال المنذري في "مختصره": يزيد بن أبي نشبة - أحد الرواة - في معنى المجهول، وقال عبد الحق (الإشبيلي): يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان.

جزء من محاضرة للعلامة الزرقا

بعنوان: مذكرة ومقترحات مقدمة إلى المؤتمر الأول للدعوة الإسلاميَّة

حول الدعوة الإسلاميَّة ومستلزماتها ومجالاتها اليوم.

شارك فيه بمحاضرة في المؤتمر الأول الذي انعقد بليبيا سنة 1390- 1970

صححها وراجعها وأعدها للنشر: مجد مكي

وستنشر - بعون الله- كاملة في " محاضرات الزرقا".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين