مسألة تفوت خيرا

إنَّ سُنَّةَ الله تعالى في طَلَبِ المَسألة كَأَخَواتِهَا مِنَ السنن التي تجري على كَافَّةِ العِبَاد، مؤمنهم وكافرهم، إمامهم ومأمومهم، فاضِلُهم ومَفضُولهم!

فما الذي حَرَمَ الصحابة ش حَظَّهُم من المَغَانِم إلا مسألتَهم عنها؟! ليقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فَخَرجَت عن أيديهم، وأَضْحَت حَظًا خَالصًا لله والرسول!

وما الذي أَرْجأ فِكَاكَ يوسف من حَبسِه إلا مسألته لِمَخلوقٍ مثلِهِ، ونسيانه سؤال ربه؟! بعد أن قال {لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] !

 

من ابتغى الفقر والمسكنة فعليه بالمسألة:

أخرج الترمذي في سننه بسند صحيح من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثَلاَثَةٌ أُقْسمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ" سنن الترمذي، رقم الحديث (2325)!

فقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن من فتح باب السؤال مع الغَير، فتح الله عليه باب فَقْر، فَكُلَّمَا زَاد ماله زادت حاجته، وَعَظُمَت بَلِيَّتُهُ، فَظَاهِر مسألته زيادةُ مالٍ كثيرٍ جم، أما باطنها فزيادة ألمٍ وهمٍ وغم !

 

كَأَنِّي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشْرِفُ أن قلوبًا من أمته سَتَأْتِي لا تُصَدِّق كلامه من أول مرة، فَرَاحَ يُقسِمُ أنَّ من سأل مَسَّهُ الفَقر؛ علَّهم أن يصدقوه ! أَبَقِيَ في فؤادك شكٌ؟! أبقي في صدرك ريبٌ !

 

فإن أَصَرَّ العبدُ على السؤال؛ نجاةً من الهموم والأهوال، كان في انتظاره قسمٌ نبوي آخر؛ يغرس اليقين في قلبه !

فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ" [ رقم الحديث: (1470)].

وأخرج النسائي في سننه بسند حسن من حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا" ! أسكفة الباب: أي: العتبة السفلى التي توطأ. شرح النووي على مسلم (1/92). سنن النسائي، رقم الحديث (2586)

 

سمع المحدث ابن حبان بهذين الحديثين فأوجع السائلين بقوله:

إني أستحب للعاقل أن لو اضطر لأكل القَدِيدِ، وَمَصِّ الحَصَى، ثم صبر وصابر، لكان أحرى به من أن يسأل لئيمًا حاجة، فإعطاؤه شين، ومنعه حَتْفٌ وموتٌ!

وهذا سيد قطب يُحْكَمُ عليه بالإعدام شنقًا، ثم تأتيه شفاعات الشافعين، فَيُسَاوم على جملتين يعتذر بهما لحاكمه مقابل نجاته، فقال لمن جاءه: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تخط كلمة واحدة تُقِرَّ بها حُكْمَ طاغوت !

 

من لم يسأل الله يغضب عليه:

أخرج الترمذي في سننه بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" سنن الترمذي، رقم الحديث (3373).

وقد وفق الله الإمام الحليمي ليستنبط نصحًا ذكيًا من مكامن الحديث فقال فيه:

لا ينبغي لك أن يمر بك يومٌ وليلة دون دعاء، فَهُمَا أعدلُ الزمن، وما وراءهما تكرار، وإن دعوت ربك فيهما خَرَجْتَ عمَّا يُوجِبُ غضب الرب عليك !        

وإذا كان ربنا بِجُودِه وكرمه يحب أن يُسأل كل لحظة، فإن العبد قد يغضب إن سألته في أي لحظة !

لا تسألنَّ من  ابن آدم حاجة ** وَسَلِ الذي أبوابُه لا  تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله ** وَبُنَيُّ آدمَ حين يُسأَلُ يغضب

 

بل إنك لو رجوت العبد حِفنةً من تراب في كل ساعة لأعلن تعبه وضجره، مع أن التراب سهل نيله، مَجانِيٌ سِعرُه ! فكيف لو سُئِلَ شيئًا نادرًا يملكه؟!

 

ولذا؛ أرجز ابن الأعرابي شعرًا جيدًا قال فيه لصديقه أبي هانئ:

أبا هانئ لا تسأل الناس والتمس ** بكفيك فضـل الله فاللـه أوسـع

ولو تسأل الناس التراب لأوشكوا ** إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

ابن حمدون / التذكرة الحمدونية (2/484)

 

إذا تقرر هذا:

أدركت الآن لِمَ لَمْ يترك أوصل الخلق بربه صلى الله عليه وسلم الدعاء في أي ساعة من ليلٍ أو نهار ! فمن تأمل الأدعية النبوية المأثورة دهش عجبًا، وعلم أن سؤال الله مُخُّ العبادة في ديننا وإسلامنا !

 

قال محمد بن حاتم لأبي بكر الوراق: عَلِّمْنِي شيئًا يقربني إلى الله تعالى ويقربني من الناس، فقال:

أما الذي يُقَرِّبُكَ إلى الله تعالى فَمَسألَتُه، وأما الذي يُقَرِّبُكَ من الناس فترك مسألتهم !

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين