مرحلة صعبة معقدة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعدُ: فإنَّه يجب علينا أن ندرك بعمقٍ أنَّ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ في بلدان العالم الإسلاميّ وبلدان الأقليَّات الإسلاميَّة تمرُّ بفترةٍ حَرِجَةٍ، ومرحلةٍ صعبةٍ، وأوضاعٍ معقَّدةٍ، استعصى حلُّها على كبار المثقَّفين والأعيان والعلماء، وقد كتب فيها الكثيرُ من البحوث العلميَّة، والكتب الإصلاحيَّة، وألقيت آلافٌ بل مئاتُ الآلاف من الخطب المجلجلة الرَّنَّانة، والمحاضرات العلميَّة المعمَّقة، والكتابات الدَّقيقة المحكمة، وسال سَيْلُ الصُّحُف والجرائد والمجلَّات والمنشورات، ولكنَّها كما يبدو أنَّها أثبتتْ فشلَها في الميدان، وعدمَ نجاعتها في المعالجة.

ظلامٌ في ظلامٌ

فمن أيام الاستعمار الأوربيِّ الغربيِّ وهو الاستخرابُ حقيقةً والتدمير الشُّيوعيِّ الشرقيِّ، إلى أيام العملاء والخدم، إلى أيَّام الثورات الشّعبيَّة ضدَّهم نفقٌ في نفقٍ، وظلامٌ في ظلامٌ، ومن تفرُّقٍ في الآراء والمذاهب والأفكار إلى تشتُّتٍ وتمزُّقٍ في الميادين والسَّاحات، وتناحُرٍ واقتتالٍ، ما يُنْذِرُ بحربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ، يخشى من اشتعالها واندلاعها مباشرةً، وهي قائمةٌ مشتعلةٌ بكلِّ ما أوتيت من وقودٍ وحَطَبٍ بالعملاء والوسائط.

إنَّ العالمَ يمرُّ اليوم بكارثةٍ إنسانيَّةٍ لم يسبقْ لها نظيرٌ، حتى في حملة التَّتار الهمجيَّة الشَّرِسَة المجنونة، فقد كان أولئك المجانين الموتورون خرجوا من جهةٍ واحدةٍ، وشعبٍ واحدٍ، وجيشٍ واحدٍ. أما جنونُ اليوم؛ فقد تعدَّى طورَهُ من كل مثالٍ سَبَقَ، فقد جُنَّت الأقوامُ والشُّعوبُ، وتوحَّشَت الجنودُ والجيوشُ، وباضت السِّباعُ الضَّواري، وفرَّخَتْ في قلوب الطُّغاة الجبابرة والنُّفوس والعقول، وكأنّ الدُّنيا عادتْ غابةَ الوحوش المفترسة، والأنعام والبهائم، فلا ترى فيها إلا حملةً وغارةً، وافتراساً وضراوةً، وشربَ الدِّماء، وأَكْلَ الأحياء.

لقد كانوا أقاموا بعد الحرب العالميَّة الأولى (1914- 1918) عُصْبَةَ الأمم، فكان مصيرُها هيجانَ العصبيات، وثَوَرَانَ القوميَّات والحَمِيَّات الجاهليَّة، التي أَدَّتْ إلى الحرب العالميَّة الثَّانية (1944- 1948م)، وقد قضتا على الأخضر واليابس، ورأت الدُّنيا منها مصَّاصي الدماء، وآكلي لحوم البشر، والعراة من كلِّ معنى للإنسانية، ثم أقيمتْ منظَّمةُ الأمم المتَّحدة، ووضعت الدَّساتيرَ والقوانينَ والعقودَ والمعاهداتِ، وقد قامتْ تحت مظلَّتها حروبٌ دمَّرت البلدان والشعوبَ بالكبرياء والغطرسة والهنجعيَّة من القوى الكبرى، والدَّجَل والكذب والتَّزوير منها من أذنابها، فمن تدبير اليابان، وقتل الملايين فيها، إلى تخريب فيتنام، وتجربة الأسلحة الجهنميَّة، إلى تدمير أفغانستان، وتحويلها إلى محرقةٍ عالميَّةٍ, تجربةٍ للإبادة العنصريَّة، إلى ضربٍ شديدٍ قاصمٍ مبيدٍ للعراق، بكلِّ احتيالٍ لئيمٍ، ومَكْرٍ كَذُوبٍ، وعداوةٍ للإنسانية، وبدوافع القضاء على الحضارة العريقة ومراكزها.

إلى أن أشرفت الدُّنيا على حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ، بتهيئة أجواء الطَّائفيَّة الملعونة البغيضة، وإغراء الشُّعوب والطَّوائف على الشُّعوب والطَّوائف الأخرى، والتفرُّج على الحروب الأهليَّة المشتعلة، واللَّعِبِ بالمؤتمرات والاجتماعات، والحفاظ على مجرمي الحروب، ودهاء السَّاسة الأنذال اللِّئام للإبقاء على القتلة السَّفَّاكين، وافتعال الأوضاع والظُّروف الشاذَّة، والصَّيْد في الماء العَكِر.

كم من الفتن التي هاجتْ وماجتْ، وكم هي من أدواءٍ مفضوحةٍ للسَّاسة المدرَّبين في دهاليز إبليس، وكم من حِيَل المكر والخداع من شطار التَّهييج والإثارة، لبيَّاعي الأسلحة، وشركات صناعتها، وكم من المقامرين الكذَّابين ممن اندسُّوا في الإعلام ـ صحافةً وإذاعةً وتلفزةً ومواقع إلكترونية ـ، وتسلَّطوا عليها بكلِّ ما أوتوا من خُبْثٍ وخِسَّةٍ ودناءةٍ، وقدراتِ دجلٍ وتزويرٍ.

وكانت قد ظنَّت الشعوبُ أنَّها أزالت الاستعمارَ الإيطاليَّ والفرنسيَّ والبريطانيَّ، نعم، استطاعوا أن يباعدوا أجسامَهم من أجسامهم، فلما بعدوا حنُّوا إليهم، وتمسَّكوا بأذيالهم، ووقعوا في فخِّ الصُّهيونية والصَّليبيَّة، كانوا في شِبَاك الطُّغاة والجيوش المعادية، والشرطة المرتزقة، فإذا بهم في أنياب الصهيونية، وفخِّ الأصدقاء.

إنَّها صورةٌ غريبةٌ، وإنَّها حقيقةٌ معقَّدةٌ، يستعيذ فيها اللاجئون، والمصيدون في الفخاخ، بأصحاب الشبكات، الذين ينقلونهم من جحيمٍ إلى جحيمٍ، ومن حُجْرٍ إلى حجرٍ آخر.

وليس هناك حَلٌّ للأزمة العالميَّة إلا في مسيرة صلاح الدين والظاهر بيبرس ومحمد الفاتح، وفي حكم سليمان القانوني والسلطان سليم والسلطان عبد الحميد، لا بدَّ من العودة إلى الوراء، كما عاد الكرَّارون مع خالد بن الوليد من أرض مؤتة، ليخرج الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى أرض تبوك، وينادي منادي السماء: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله}[التوبة:41].

إنَّ تركيا بلدٌ عريقٌ أصيلٌ، يحمل إِرْثَ القرون الماضيات بالأمجاد والبطولات، وقد اختارها اللهُ تعالى لتكون مركزاً عالميّاً لخير أمَّةٍ أخرجتْ للناس، وأدَّى رجالُها الأفذاذُ، وأبطالُها الكُمَاةُ الأباةُ أمانةَ هذه الأمَّة في العهود الزَّاهرات، ثم كانتْ فترةُ ضعفٍ وتقهقرٍ، ثم قهرٍ وطغيانٍ، واندسَّ المندسُّون، وتسلَّل المجرمون، وتسلَّق الحاقدون، وذهبتْ عقودٌ من الضَّياع والتخلُّف والحرمان والتشرذم، والمراءة بالنتوءات والتورُّم، فلم يكن رُقِيُّ الشعوب بملء البطون، وترهُّل الأجسام، وحليِّ النساء، وزينات المدينة المبهرجة، إنَّما ترقى الشعوبُ برسالتها ودورها الإنساني الخلقي، وعلومها ومعارفها، وآدابها وثقافتها، وحضارتها وأصالتها.

وقد آن لتركيا أن تستعيدَ هذا الدَّوْرَ، وأن تؤدِّي هذه الأمانةَ، وتقوم بالرِّسالة العالميَّة، وقد آوت المهجَّرين المشرَّدين، ونصرت الملهوفين والمنكوبين، وضمَّدتْ جراحَ المجروحين، وعلَّمت الأطفالَ والشبابَ، واستقبلت الضيوفَ عرباً وعجماً، سوداً وبيضاً، ومن كلِّ أنحاء العالم، ولا سيما من كلِّ منطقةٍ منكوبةٍ، وشعبٍ معذَّبٍ، وناسٍ مضطهدين، إنَّ هذه الظَّاهرةَ ـ رغم ما فيها من مآسٍ وجراحٍ، وآلامٍ وأوجاعٍ ـ تهيئُ لتركيا العملاقة أن تعودَ لمكانتها، وتاريخها الأغرِّ، ودورها الحقيقيّ المنشود.

وينبغي أن يعلم هنا: أن المسؤوليَّةَ لا تقع على الحكومة فحسب، إنَّها مسؤوليَّةٌ عامَّةٌ، لا بدًّ من مشاركة الشباب والشيوخ فيها، وإنَّه يجب بصورةٍ خاصَّةٍ في هذه الفترة العصيبة إنجازُ هذه المهامِّ الجليلة:

1- يجب بذل كلِّ الجهود ـ تعليماً وتربيةً وإعلاماً ـ لتقوية أواصر الأخوة الإسلاميَّة بين كلِّ الشُّعوب المسلمة، وكلِّ الطبقات والمكوِّنات، ويركز كلُّ جهدٍ إعلاميٍّ على تحقيق هذا المعنى، وتنميته وإبرازه، والتظاهر به.

2- يجب بذلُ كلِّ الجهود في المؤسَّسات التَّعليميَّة، والحلقات العلميَّة، والأحاديث المنبريَّة، والحوارات الإعلاميَّة بالاهتمام باللغة العربيَّة، فهي لغةُ الكتاب والسُّنَّة، والعلوم الإسلامية، ولغةُ الشعوب المسلمة المشتركة الرَّسميَّة.

3- يجب نشرُ التَّعليم القرآنيّ، وبثُّ الأحاديث النبويَّة، وإحاطةُ الناس كلِّهم بالتَّعليم الإسلاميّ من دون إثارةٍ للقضايا الخلافيَّة، وتسليطُ الضوء على الحقائق الاجماعيَّة، والدَّعوة إلى الوحدة والوفاق، وعدم التفرُّق والشِّقاق.

4- لا بدَّ من إقامة دور التَّرجمة من التركية إلى اللغات العالمية، ومن اللغات العالمية إلى التركية، وإعداد كوادر الشَّباب المترجمين، والبارعين في مختلف اللغات، للتبادل والتفاوض والحوار، وإقامة العلاقات الطيِّبة.

5- يجب على العلماء والطُّلَّاب والدعاة والإعلاميين القيامُ بتعريف الإسلام لغير المسلمين، وتقديم نسخ القرآن وكتب السيرة الطيبة، والمبادئ الإسلامية في جميع اللغات حتى تبلغَ الكلمةُ إليهم جميعاً، وتقومَ الحُجَّةُ عليهم قاطبةً.

6- من الواجب المحتَّم أيضاً: التَّقريبُ بين الجماعات والمنظَّمات والحركات الإسلاميَّة، وإقامةُ أواصر الحبِّ والإخاء والثِّقة والاعتماد، والتعاون على البِرِّ والتقوى، والتركيزُ على الجوانب الإيجابيَّة، وعدمُ التَّشهير بالجوانب السَّلبيَّة أو جوانب الضَّعف، وعقدُ اللقاءات والاجتماعات، والقيامُ بالزيارات لمختلف أصحاب التوجُّهات والهيئات والجمعيَّات بغية تمتين العلاقات، وإزالة الظُّنون، ولا ينبغي القولُ في أيِّ فردٍ أو جماعةٍ أو منظَّمةٍ إلا بعد المقابلة مع مسؤوليه، ولقائهم، وتبادل الآراء معهم، والاستماع إليهم، ومعرفة أعذارهم في بعض مواقفهم.

7- يجب التحفُّظُ كلُّ التحفُّظ من المهرِّجين ومثيري الفتنة والشَّحناء، وموجدي العداوة والبغضاء، وعدم الاعتماد إطلاقاً على الوسائط والأخبار الإعلامية، وعدم الإفتاء والإدلاء بأيِّ رأيٍ إلا بعد التجارب المباشرة، والجهود الموفَّقة، واللقاءات المعتمدة.

وأخيراً، يجب أن تكون تعاليمُ سورة "الحجرات" من كتاب الله تعالى بصورةٍ خاصَّةٍ نصبَ أعيننا، نحتكم إليها في أمورنا، عقيدةً، وخلقاً، وعملاً، وسلوكاً، واجتماعاً، وتضامناً. وفّقنا اللهُ تعالى لما فيه الخيرُ والصلاحُ.

سلمان الحسيني الندويّ

28/01/2016م

المصدر : مجلة الحميدية العدد الأول

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين