مرحبا بالطوفان

أنا الغريق فما خوفي من البلل.

منذ القِدَم وفي كل الثقافات، حين يضيق بالناس الحال وتنسد في وجوههم طرق العدالة، ويتملكهم اليأس من تحقيق العيش الكريم، يحلمون بقدوم الطوفان الذي يجرف واقعا مُحبِطاً يأس الناسُ من تغيره.

تقول الأسطورة اليونانية:

(إن " زوس " كبير معبودات اليونان قرر إفناء البشر بالطوفان عقاباً لهم على تفشي الظلم، واختار رجلاً صالحاً وامرأةً صالحة ليستثنيهما من الغرق، وليبدأ بهما ذرية صالحة لعمارة الأرض.

وجاء الطوفان ومحى المجتمع الظالم، ثم أوحى "زوس" للرجل والمرأة أن يأخذا من أمهما الأرض بعض الحجارة ويقذفا بها من خلف ظهرهما، وما سقط من حجارة الرجل على الأرض أنبتت رجالاً، وما سقط من حجارة المرأة أنبتت نساءً.

وبدأت حياة جديدة صالحة خالية من الظلم.)

هذه هي الأسطورة، والأساطير هي ثمرة من ثمار الفكر الإنساني، يُعَّبِر عن طموح الإنسان وأشواقه وأحلامه في صورتها البِكْر.

أسطورة تعبر عن حلم الإنسان في عالم جديد يسود فيه العدل، ولو كان الثمن طوفان يجرف معالم الحياة، تحمل الأسطورة شعورا عجيبا، يخلط بين الحب و الكراهية، والقوة والعجز، والأمل واليأس.

شعور يمزق الإنسان الحُر بين حب العدل وكراهية الظلم، بين قوة الغضب من الظلم وشعور العجز عن تحقيق العدل، بين الأمل في مستقبل أفضل واليأس من الوصول إليه.

شعور دفع نبي الله "نوح"  إلي أن يُبَّشر بالطوفان ويدعو:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا .)

 

"طوفان الأقصى"، اسم مُلهِم:

ماذا تنتظر من شعب سُدَت في وجهه كل سبل الحياة الحرة الكريمة، شعب يرى العالم الذي يلبس ثوب الواعظين يجتمع على قتله وتهجيره، شعب رأى جيرانه وإخوانه في العقيدة والعروبة والهَم يتخلون عنه، شعب حاصره القريب والغريب خلف أسوار حديدية ومعابِر مُذِلَّة.

 

إذا أُحكِمَت السدود أمام أحلام البشر، فربما يسكنون حيناً تحت وطئة القهر والظلم، ويتحول المجتمع الإنساني إلى مستنقع راكد يعلوه العفن، ويتفشى فيه النفاق والفساد، وقتها لا تُجدي لعلاجه بعض الثقوب في جدران القهر، الحل هو الطوفان الذي يزيل السدود.

 

"طوفان الأقصى" هو الحل، ولا حل سواه، وهذا أوانه وميقاته، ليس فقط لغزة بل للأمة بأسرها، "طوفان الأقصى" خَلَق فرصة تاريخية لخروج الأمة من المستنقع، وأثبت للجميع قدرتهم على الخروج لو أرادوا، وكشفت لهم عن وهن بيت العنكبوت الذي يحبسهم، وحطم أمامهم سدود الوهم والخوف.

 

ومن طبيعة الأشياء أن ترتفع رايات تطالب بدوام الاستقرار في المستنقع، وترتفع أصوات تطالب بخنق الديك الذي فر من حظيرة الدجاج، وتغلوش على صياحه إيذانا بالفجر الجديد، وتلوم الضحية الذي يدافع عن شرفه وشرفهم.

 

لا تلوموه قد رأى ** منْهجَ الحقِّ مُظلما

وبلاداً أحبَّها ** ركنُها قد تهدًّما

وخصوماً ببغْيِهمْ ** ضجَّت الأَرضُ والسما

مرَّ حينٌ فكاد يق ** تُلهُ اليأْسُ إنَّما

هو بالباب واقفُ ** والرَّدى منه خائفُ

فاهدأي يا عواصفُ ** خجلاً مِن جراءتِهْ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين