مراعاة الداعية المسلم لأحوال البيئة والمخاطَبين -4- والأخيرة



عني بتصحيحها الشيخ مجد مكي
4 – مراعاة أهمية الموضوع واعتبار قاعدة الأولويات:
إن الموضوعات التي يمكن أن يعالجها الداعية ليست سواء في عِظَم شأنها وخطورتها، وبالتالي في تفاوت العناية بها والإلحاح عليها، ذلك أن القرآن الكريم فاضل بين الأمور المطلوبة كما فاضل بين الأمور الممنوعة، فجعل الشِّرك أعظم الذنوب، فالله سبحانه {لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}،


كما أنه خصَّ من يتعاطى الربا بإيذان الحرب، وهدَّد من يتولى عن الزحف ويولي العدو دبره -من غير عذر -بغضبه واستحقاقه لجهنم جزاء، ونفى الإيمان عمن يوالي أعداء الله الذين يحاربون الله ورسوله: [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ...] {المجادلة:22}، وجعل ولاية المؤمن للمؤمنين أمراً عظيماً بالغ الخطورة في عدة آيات ولم يجعل جميع الأمور الأخرى المطلوبة أو المنهي عنها بهذه المثابة ولا بهذه المنزلة، وكذلك السنَّة فاضلت بين الأعمال. والشواهد على ذلك كثيرة.


وبناء على هذه القاعدة: ينبغي أن يكون الداعية حكيماً في مراعاة العناية بأمور أكثر من غيرها مستنداً في ذلك إلى اعتبارين:
أولهما: ترتيب الشرع كتاباً وسنة للأمور المطلوبة أو الممنوعة، ويستنتج ذلك من نصوص الكتاب والسنة ومن كثرة التكرار والتشديد في الطلب، وشدة الوعيد والإخراج من المسلمين وما إلى ذلك من القرائن.


وثانيهما: أهمية الموضوع بالنسبة للبيئة نفسها.
ينبغي أن يراعيَ الداعية في الموضوعات التي يعالجها ويتحدَّث عنها ما تكون الحاجة إليه أمر في البيئة نفسها، فإذا كان فيها إهمال لشعيرة من شعائر الإسلام وشيوعٌ لكبيرة من الكبائر ولآفة من الآفات الأخلاقية، كالسرقة أو الخمر أو الفحش أو لبدعة من البدع المنكرة كان الكلام في هذه الأمور مقدَّماً على غيرها لوجود ما يدعو إلى تقديمها على غيرها ممَّا ليس هو موضع شكوى أو نقص.
ومن غير الحكمة كذلك إثارة أمور غير مطروحة في البيئة.


وهكذا بالمزج بين الاعتبارين: اعتبار مقاصد الشريعة ونصوصها في ترتيب الأمور في الأهمية، وتقديم بعضها على بعض، واعتبار البيئة وحاجتها، يرسم الداعية خطَّته في معالجة الأوضاع الاجتماعيَّة وتغييرها وإصلاحها لإيصالها إلى الحالة التي يتطلبها الإسلام.
5 – المعالجة الجذرية الحكمية:
على الداعية أن يسير في تثبيت ما يجب تثبيته، واجتثاث ما يجب اجتثاثه بخطى هادئة هادفة، فيحاول استجلاب الرأي العام والتأثير في أصحاب النفوذ والسلطان وإقناعهم ولذلك يجب:


أ – أن يتجنَّب المفاجآت المثيرة للجمهور والرأي العام، ويسلك طريق المعالجة الطويلة الأمد، ومحاولة الزحف على الموضوع ببطء إذ النفوس تحتاج إلى زمن للتحول من رأي إلى رأي، وتحتاج القناعة إلى نضج زمني.


ب – ويجب كذلك أن يتجنَّب الانشغال في الخلافات المذهبية الفقهية والترجيح بينها، ولاسيما أمام جمهور العامة، فإن ذلك مثير للنفوس التي تعودت أمراً مدة طويلة، وهو قليل الجدوى بالنسبة للأمور الهامة الأخرى، ويسبب الانشغال عنها.
ج – وعليه أن يتجنَّب أسلوب الطعن والتجريح في الآراء الاجتهادية وأصحابها من المسلمين ولو خالفت رأيه، بل عليه أن يرد الآراء الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ويعرض عن الكلام عن أصحابها إذا كانوا محلَّ تعظيم لدى الجمهور، ويصل إلى هدفه في إزالة ذلك بالتدريج بإبطال آرائهم وتقبيح مذاهبهم.


القاعدة العامة في كل ما سبق هي إذن المعالجة الجذريَّة الطويلة الأمد والقصد منها الانطلاق من النصوص الشرعيَّة المسلَّم بها من القرآن والسنة، وتثبيت المعاني التي توصل إلى إبطال البدع والمعتقدات الفاسدة وسقوطها في تقرير المعتقدين بها.
ونختم موضوعنا بالقول: أن الدعوة تكون بالقدوة والعمل كما تكون بالتعليم والقول، وسيرة الداعية وسلوكه وتمسُّكه بالفرائض والسنن، والتزامه هو وأسرته جميعاً بحدود الشريعة، هم أعظم في التأثير من أقواله، بل هو شرط لقبول الناس لأقواله، وإلا كان في نظرهم ممَّن { يقولون ما لا يفعلون}، وكذلك صدقه واستقامته في المعاملة، ووفاؤه بالعهد والوعد، وحسن لقائه للناس، وبشاشة وجهه ورقة حاشيته، ودماثته وإعانته لهم فيما يستطيع أن يعينهم فيه، وتسهيل أمورهم فيما هو من شأنه، كل ذلك مع حفظ كرامته وترفعه عن التبذُّل والنفاق والخضوع لأصحاب السلطان والغنى، وعكس ذلك كله يبطل أثر أقواله، بل ربما يجعلها معكوسة النتائج سيئة المآل.


اقتراح:
ومما يُقترح تأليف لجنة وتكليفها خلال فترة زمنية كافية، وضعَ منهج للدعاة بعنوان: "دليل الدعاة"، أو "منهج الدعوة"، أو ما شابه ذلك، ويمكن أن يوضع بين يدي اللجنة التي قدِمت للمؤتمر لتفيد أو تقتبس منها.
نسأل الله تعالى التوفيق والسَّداد والرَّشاد لنا ولجميع الدعاة إلى دينه؛ لتسعَدَ الإنسانية جميعاً بالإسلام بعد أن شقيت بغيره، وليصبح الناس جميعاً- بعد أن كانوا أعداء متعادين- إخواناً بنعمة الله متحابين.

وصلى الله على  سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم


*محمد المبارك: أستاذ ومستشار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.

للاطلاع على الحلقة السابقة اضغط هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين