مراعاة الداعية المسلم لأحوال البيئة والمخاطَبين -3-




عني بتصحيحها الشيخ مجد مكي

بعد استعراضنا لمختلف الفئات التي تشتمل عليها المجتمعات الإنسانية عموماً، وتشتمل على أكثرها المجتمعات الإسلامية المعاصرة لابد لنا من بيان أن المجتمعات الإسلاميَّة التي تريد أن يعمل فيها الداعية المسلم تتألف غالباً من مجموع هذه الفئات السابقة أو أكثرها، ولذلك يجب عليه أن يجمع في أسلوبه في الدعوة بين مقتضياتها ومتطلّباتها جمعياً بحيث ينال كل فئة نصيبها من موضوعات الحديث وحججه وأدلته وشواهده ابتداءً من البراهين العقلية وَفْقاً لأساليب التفكير المعاصر وانتهاء إلى النصوص القرآنية والأدلة الشرعية.
ونبيِّن فيما يلي المنطلقات التي ينغي أن ينطلق منها الداعية والتي سبق أن أشرنا إليها بإيجاز.

1 – منطلقات اجتماعيَّة تتصل بالمجتمعات الحديثة:
برزت في هذا العصر قضايا اجتماعية إنسانية احتلت مرتبة الصدارة، وشغلت أفكار المفكرين كما شغلت جماهير الشعوب، كثيراً ما استغلتها المذاهب الحديثة واتخذت منها مدخلاً للوصول إلى عرض عقائدها والترويج لأفكارها.
من أبرز هذه القضايا: تحرير الإنسان من الاستعباد والاستبداد والظلم والجهل والخرافة، والإسلام في عقيدته الأساسية التي هي التوحيد، يضع هذا المبدأ في مقدمة ما يهتم به، وإنما معنى (لا إله إلا الله) تحرير الإنسان من الخضوع لغير الله، أي: تحريره من أن يكون عبداً خاضعاً لإنسان مثله فرداً كان أم جماعة فضلاً عن الخضوع لشيء من أشياء الطبيعة أو للخرافات التي هي بقايا الوثنيَّة والشرك.
فتحرير الشعوب من استبداد المستبدين، وظلم الظالمين، واستعمار المستعمرين، كل ذلك وأشباهه من أهداف الإسلام، ومن مستلزمات عقيدة التوحيد، وفي هذا مجالٌ واسع للكلام عن الإسلام باعتباره الدين المحرِّر للإنسان تحريراً كاملاً شاملاً خلافاً للمذاهب المعاصرة.
ومن هذه القضايا: العدالة الاجتماعية، ومنع الاستغلال والظلم والاحتكار والغش، والربا الذي حرمه الإسلام هو من أفظع أنواع الاستغلال.
إنَّ شرع هذا الأصل وبيان تطبيقاته في العصر الحاضر كإنصاف العمال الصناعيين والزراعيين وغيرهم مع حفظ حقوق الجهود الفرديَّة والكسب الناتج عنها هو من المسائل التي يجب أن يُعنى الداعية المسلم بشرحها في ضوء أحكام الإسلام ومبادئه، وبيان مزايا الشريعة الإسلامية بالنسبة للمذاهب الأخرى.
ومن المداخل الصالحة أيضاً: الكلام عن أزمة الحضارة المعاصرة بجميع مذاهبها وأنظمتها، كالأزمات الفكرية والاقتصادية والسياسية، وأزمة الأسرة والتربية والآفات المتفشية كانتشار الكحول والمخدِّرات والانتحار والفرديَّة والانحلال الأخلاقي وغير ذلك.
وينبغي للداعية المسلم أن يتعمَّق في دراسة هذا الموضوع لا أن يكتفي بالكلام السطحي المعروف، وذلك بتتبُّع بعض الدراسات التي كُتبت فيه، وينتقل من نقائص المذاهب المعاصرة إلى مزايا الإسلام في الميادين نفسها وما جاء به من مبادئ وأحكام تحول دون حدوث أمثال تلك الأزمات. وما ذكرناه إنما هو على سبيل ضرب المثل لا على سبيل الاستقصاء.

2 – مشكلات البيئة:
لكلِّ بيئة اجتماعية مشكلاتها الخاصَّة، ومن هذه المشكلات ما هو مشترك بين المجتمعات الإسلامية في مختلف البلدان، ومن الواجب الانطلاق من هذه المشكلات لمعالجتها في ضوء الإسلام.
فمن هذه المشكلات مثلاً: مشكلة الفقر والتخلف والكسل والخمر والظلم بأنواعه، والاعتقاد بالخرافات والتقاليد الفاسدة والتبرج والتهتك والاختلاط المحرم، والأثَرَة والأنانية الفردية، والبدع الدخيلة على الدين، والوساخة والإعراض عن السنن النبوية كإفشاء السلام، ومشكلة الخلافات المذهبية والفقهية إن وجدت، وظلم المرأة وهضم حقوقها والحطُّ من شأنها...
إنَّ الانطلاق من المشكلات الموجودة في البيئة ولاسيما منها ما يتعلق بالمجتمع كله، وما يكون مدخلاً للمذاهب الأخرى وذريعة لأصحابها، يقدم للداعية المسلم مرتكزات قويَّة ويمكنه من الاتصال بالجمهور عن طريق قضايا تهمه وتحرك عقله ومشاعره، ويسلط عليها أنوار الإسلام ليتَّضح الحل الصحيح المرضيُّ لها.
ويعالج الداعية كذلك ما في البيئة من انحرافات عن الإسلام أو آفات منتشرة أو نقائص، ويقدم الصورة الإسلامية الصحيحة.
وإذا وجد تقصيراً أو ضعفاً بالنسبة لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام في تلك البيئة في العقيدة والعبادة والسلوك، تدارك ذلك ونبّه إليه بالطرق الحكيمة وبالتعليم ، ومستعيناً بشواهد من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبهذه الطريقة في معالجة المشكلات وخاصة الاجتماعيَّة عن طريق الإسلام وإقناع الناس بأفضليَّة الحل الإسلامي يسدُّ الطريق على المذاهب الأخرى غير الإسلامية ويمنع تسلُّلها.
ومما يمكن الاستعانة به في هذا المجال: عرض صفحات من الحضارة الإسلامية ابتداء من العهد النبوي حتى العصور المتأخرة، كرعاية المسلمين للضعفاء وحمايتهم ومساعدتهم، وعنايتهم بالمرضى، ونشرهم للعلم، ومحوهم للأمية، ومكافحتهم للفقر عن طريق الزكاة والوقف وغيرهما.

3 – رد المطاعن والشبه:
تنتشر في الأوساط المثقفة ثقافةً غربية - وهم الكثرة الكاثرة- مطاعنُ وشبهٌ أشاعها الغربيون غير المسلمين من مبشِّرين ومستعمرين ومستشرقين، فينبغي أن يكون الداعية على ذكر منها وتنبُّه لها، والواجب أن يضمِّن كلامه الرد عليها دون أن يغرق في عرضها وشرحها حتى لا يكون سبباً في نشرها وإبلاغها لمن لم يعرفها.
فمن أهم هذه المطاعن الواردة في بعض كتب الغربيين: ادِّعاؤهم أنَّ الإسلام يعوق التقدم الحضاري وخاصة المادي والعلمي، فعلى الداعية أن يتناول الموضوع ايجابياً وذلك ببيان أثر الإسلام في دفع البشريَّة نحو التقدُّم الفكري والعلمي والاقتصادي والعمراني، فيتهافت الطعن بنفسه دون حاجة إلى إيراده وعرضه.
ومن هذه المطاعن: موضوع الرق، فعلى الداعية أن يبيِّن ما فعله الإسلام لأول مرة في تاريخ البشرية في ميدان تحرير الأرقاء؛ إذ جعله باباً من أبواب الزكاة وبالتالي من أبواب ميزانية الدولة، هذا في التشريع الاجتماعي، وجعله قربة إلى الله وكفارةً لكثير من الذنوب، وهذا من باب الديانة والتقوى، ومنع كثيراً من مصادر الرق فحصرها في مواطن ضيقة، ثم لم يوجب الاسترقاق في حالٍ من الأحوال وإنما عالج ظاهرة اجتماعيَّة كانت موجودة قبله ومهَّد لحلها جذرياً وتصفيتها.
وهكذا سائر المطاعن المدسوسة كادِّعاء الجمود في الشريعة، فيبيِّن الداعية سَعَة الشريعة ومرونتها فيما يجب أن يكون مرناً، وتثبيت ما توجب المصلحة تثبيته. فمن النوع الأول: عدم تحديد العقوبات التعزيريَّة وتركها لاجتهاد وليِّ الأمر، وترك طريقة الشورى في الحكم مطلقةً من غير تحديد، وترك باب العقود في المعاملات مفتوحاً فيما لم ينص على تحريمه من المعاملات.
وأما ما ثبَّته الشرع كتحريم الربا وإيجاب الزواج دون الزنى، وتحديد الطلاق والنفقة والميراث لتثبيت الأسرة....

 

للاطلاع على الحلقة السابقة اضغط هنا
-------------
بحث قدم إلى المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من 24- 29/ 2/ 1397هـ - 1977م.
- هكذا في الأصل .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين