مدينة حلب في تراثنا العلمي والأدبي

 

تعتبر مدينة حلب الشهباء من أقدم المدن في العالم، وهي تقع في شمال غرب بلاد الشام، وكانت مركزًا حضاريًا وسياسيًا وعلميًا وأدبيًا هامًا عبر التاريخ، وهي مدينة جميلة صدحت بها حناجر الشعراء أعذب الشعر الخالد في دولة بني حمدان، وبزغت فيها شمس المتنبي وأبي فراس الحمداني والصنوبري وغيرهم من أعمدة الشعر العربي، أول ما يطالعك عند رؤيتها هو تلك القلعة الشماء التي تحكي صمود المدينة ضد الغزاة عبر السنين، وتروي لك قصة التاريخ ورجاله وعظمائه الخالدين، وهذا البحث الموجز يأتي ليلقي الضوء على بعض معالم تلك المدينة الخالدة عبر تاريخها الطويل. 

 

موقعها 

 

قال ياقوت الحموي: "حلَبُ بالتحريك: مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء، وهي قصبة جند قنسرين في أيامنا هذه" 

 

أول من بناها 

 

اختلف في ذلك، وقققد نقل يا قوت أقوالا كثيرة بهذا الخصوص منها قوله: "وذكر أبو نصر يحيى بن جرير الطبيب التكريتيي النصراني أن سلوقس الموصلي بناها بعد دولة الإسكندر... وقيل إن العماليق الذين بنوها" 

 

سبب تسميتها بحلب 

 

تعود تسمية حلب إلى رواية مفادها أن هنالك صلة بين المدينة وسيدنا إبراهيم عليه السلام، قال ياقوت: "وحلب بلد مسور بحجر أبيض، وفيه ستة أبواب، وفي جانب السور قلعة، في أعلاها مسجد وكنيستان، وفي إحداهما كان المذبح الذي قرب عليه إبراهيم عليه السلام، وفي أسفل القلعة مغارة كان يخبئ بها غنمه، وكان إذا حلبها أضاف الناس بلبنها، فكانوا يقولون: حلب أم لا؟ ويسأل بعضهم بعضا عن ذلك، فسميت لذلك حلبا". 

وربط التسمية بإبراهيم عليه السلام يعطي المدينة مسحة من القداسة لدى سكانها. 

 

قلعتها وأبوابها 

 

قلعة حلب من أعظم قلاع الأرض، قال ياقوت:"وأما قلعتها فبها يضرب المثل في الحسن والحصانة، لأن مدينة حلب في وطأ من الأرض، وفي وسط ذلك الوطأ جبل عال مدور صحيح التدوير، مهندم بتراب صح به تدويره، والقلعة مبنية في رأسه، ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة، ولها في أيامنا هذه سبعة أبواب: باب الأربعين، وباب اليهود، وكان الملك الظاهر قد جدد عمارته وسماه باب النصر، وباب الجنان، وباب أنطاكية، وباب قنسرين، وباب العراق، وباب السرّ" 

 

آثار الأنبياء في القلعة 

 

وفي القلعة آثار لبعض الأنبياء عليهم السلام، قال ياقوت: "وقلعة حلب مقام إبراهيم الخليل، وفيه صندوق فيه قطعة من رأس يحيى بن زكرياء عليه السلام" 

 

أهلها 

 

لما كانت حلب في موقع استراتيجي وكانت مركزا هاما للحضارة وللقوافل التجارية فقد فرض هذا على سكانها مظهرا حضاريا لائقا، وتعاهدا لتراث المدينة الخالد، قال ياقوت:"ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقل ما ترى من نشئها من لم يتقيل أخلاق آبائه في مثل ذلك، فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان" 

 

فتحها 

 

ذكر ياقوت بأنها فتحت صلحا على يد أبي عبيدة بن الجراح، وكان على مقدمة جيشه: عياض بن غنم الفهري، وكان ذلك سنة ست عشرة للهجرة كما ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء . 

 

خصوبة أرضها 

 

تتميز حلب بخصوبة أرضها، فهي أرض معطاء تجود بالزرع والثمرات من غير ري من قبل الإنسان، وهذا من فضله تعالى، قال ياقوت: "وشاهدت من حلب وأعمالها ما استدللت به على أن الله تعالى خصها بالبركة وفضلها على جميع البلاد، فمن ذلك أنه يزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش والتين والتفاح عديا، لا يسقى إلا بماء المطر، ويجيء مع ذلك رخصا غضا رويا يفوق ما يسقى بالمياه والسيح في جميع البلاد، وهذا لم أره فيما طوفت من البلاد في غير أرضها". 

 

مقدار أموالها 

 

ومن طيب الأرض تكون الغلة الحسنة التي تدفع لميزانية الدولة، وهو مبلغ وفر في ماضي الزمان، قال ياقوت: "وقد ارتفع إليها في العام الماضي وهو سنة 625 من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم، وهذا مع العـــــدل الكامل والرفق الشامل، بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضِِّم ولا متهضَََّم، وهذا من بركة العدل وحسن النية". 

 

حلب مدينة الشعر والأدب 

 

حلب مدينة الشعر والأدب مر بها أعلام الشعراء، ونبغ فيها الكثير منهم، من ذلك البحتري صاحب علوة الحلبية، وكانت دارها معروفة بدار علوة، قال ياقوت: "وفي وسط البلد دار علوة صاحبة البحتري". وقد قال الدكتور شوقي ضيف في حديثه عن البحتري: "وامتد به طموحه فتجاوز بلدته إلى بلاد أكبر من حولها، إذ نراه ينزل حلب، وهناك تعرف على علوة بنت زريقة التي شغفته حبا... وظلت ذكراها لا تبرح ذاكرة البحتري حتى الأنفاس الأخيرة من حياته" 

وفي علوة يقول البحتري: 

 

ألام على هواك وليس عـــدلا إذا أحببت مثلك أن ألامـــــــا 

لقد حرمت من وصلي حــلالا وقد حللت من هجري حراما 

تناءت دار علـــــوة بعد قرب فهل ركب يبلغها الســــــلاما 

وجدد طيفها عتبا علينـــــــا فما يعتادنا إلا لمــــــــــــــاما 

 

إلى أن يقول: 

لئن أضحت محـــــلتنا عراقا مشرقة وحلتها شآمـــــــــــا 

فلم أاحدث لهـــــــا إلا ودادا ولم أزدد بها إلا غرامــــــــا

 

ومن شعراء حلب الصنوبري، وهو الذي يقول فيها: 

 

حلب بدر دجى أنـ جمها الزهرُ قراها 

حبذا جامعها الجا مع للنفس تقاهـــــا 

 

ومنها: 

حلب أكرم مأوى وكريم من أواهـــــا 

بسط الغيث عليها بسط نور ما طواها 

وكساها حللا أبـ دع فيها إذ كســـاها 

 

وقال كشاجم يصف حلب: 

 

أرتك ندى الغيث آثارها وأخرجت الأرض أزهارها 

وما أمتعت جارها بلــدة كما أمتعت حلـــــب جارها 

هي الخلد يجمع ما تشتهي فزرها فطوبى لمن زارها 

 

وورد ذكر حلب في شعر أبي فراس الحمداني وابن نباتة السعدي والسري الرفاء وأبي العلاء المعري مما يصعب تتبعه في مقال موجز، ولكن لا بد أن نقف عند عملاق الشعر العربي أبي الطيب المتنبي الذي تخرج في مدرسة سيف الدولة، فربما قال القصيدة مقابل دينار واحد قبل صحبة سيف الدولة، فلما صحب سيف الدولة صار يعطيه على القصيدة ألف دينار، فتفتقت موهبة المتنبي، وانطلق عذب شعره يملأ الآفاق، ومما قاله في حلب وأميرها سيف الدولة الذي حمى ثغور المسلمين من الغزو الصليبي في ذلك الزمان: 

 

كلما رحبت بنا الروض قلنــــا حلب قصدنـــــا وأنتِ السبيل

فيكِِ مرعى جيادنا والمطايـــــا وإليها وجيفــــــنا والذمــــيل 

والمسمون بالأمير كثيـــــــــــر والأمير الذي بها المـــــأمول 

 

الوجيف والذميل: ضربان من السير سريعان، ومنها: 

 

كيف لا يأمن العــــراق ومصر وسراياك دونها والـــــخيول 

 

ومنها: 

 

أنت طول الحياة للروم غــــــاز فمتى الوعد أن يكون القفول 

وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلـــــــــى أي جانبيك تميل 

قعد الناس كلهم عن مســــاعيـ ـك وقامت بها القنا والنصول 

ما الذي تدار عنده المنايــــــــــا كالذي عنده تدار الشـــــمول 

 

مناقب الدولة الحمدانية 

 

الدولة الحمدانية هي دولة السيف والقلم، وهي أنموذج لما ينبغي أن تكون عليه الدولة من تكامل القوة والمعرفة، فالمعرفة نوع من القوة، والقوة تصدر عن المعرفة، إذ لا تكون القوة إلا من خلال البحث والمعرفة، والمعرفة والقوة تتكاملان لصناعة الدولة الأنموذج التي تكون قادرة على رعاية مصالحها وحفظ حقوقها وتعليم ورعاية أبنائها، ولو أن الملوك والأمراء في تلك الحقبة جعلوا الدولة الحمدانية أنموذجا لهم في هذا التكامل بين العلم والمعرفة لما توالت النكبات عليهم فيما بعد من غزو صليبي ثم تتري مغولي، وللدكتور مصطفى الشكعة كتاب بعنوان: سيف الدولة الحمداني أو مملكة السيف ودولة الأقلام، يقول فيه: "ويذكر الثعالبي أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، كما يذكر الغزولي أنه قد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الملوك، فكان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطربه الفارابي، وطباخه كشاجم، وخزان كتبه الخالديان، والصنوبري، ومداحه: المتنبي، والسلامي، والوأواء الدمشقي، والببغاء، والنامي، وابن نباتة السعدي، والصنوبري، وغيرهم" . 

 

بعض ما كتب ونشر حول تاريخ حلب وأخبارها 

 

هنالك عشرات الكتب والبحوث حول تاريخ مدينة حلب والحركة العلمية فيها، نورد ذكر المطبوع منها حسب الترتيب المعجمي، فمن ذلك: 

1. الآثار الإسلامية و التاريخية في حلب : ألفه بالفرنسية المستشرق جان سوفاجيه، وعربه محمد أسعد طلس. 

2. أحياء حلب و أسواقها : لخير الدين الأسدي 

3. أخبار حلب كما كتبها نعوم بخاش في دفاتر الجمعية، تحقيق الأب يوسف قوشاقجي. 

4. أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر : لقسطاكي الحمصي الحلبي ت1941م. 

5. إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء : محمد راغب الطباخ، صححه محمد كمال. 

6. إمارة حلب في ظل الحكم السلجوقي : محمد ضامن (رسالة ماجستير). 

7. بغية الطلب في تاريخ حلب : لابن العديم ت660هـ، تحقيق د. سهيل زكار. 

8. بنو مرداس الكلابيون في حلب وشمال الشام : د . محمد أحمد عبد المولى 

9. التاريخ الطبيعي لحلب : ألفه بالإنكليزية الطبيب باتريك راسل، وعاونه أخوه إسكندر. 

10. تاريخ حلب : لمحمد بن علي الأعظمي، ت556هـ، تحقيق إبراهيم زعرور. 

11. تحف الأنباء في تاريخ حلب الشهباء: جمعة الطبيب الجرماني بيشوف 

12. الحركة الشعرية زمن الأيوبيين في حلب الشهباء :د . أحمد فوزي الهيب 

13. الحركة الشعرية في زمن المماليك في حلب الشهباء : د . أحمد فوزي الهيب 

14. الحركة الفكرية في حلب (في القرن التاسع عشر) : لعائشة الدباغ 

15. حلب تاريخها ومعالمها الأثرية، د. شوقي شعث. 

16. حلبيات : ألفه عبد الله يوركي الحلاق 

17. الحياة الفكرية في حلب في القرن التاسع عشر : فريد جحا 

18. در الحبب في تاريخ أعيان حلب : لابن الحنبلي ت971هـ، تحقيق محمود الفاخوري ويحيى عبارة. 

19. الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب : ينسب لابن الشحنة ت890هـ، طبع بعناية يوسف سركيس. 

20. الزبد والضرب في تاريخ حلب : لابن الحنبلي أيضا، تحقيق د. محمد التونجي. 

21. زبدة الحلب لتاريخ حلب : لابن العديم أيضاً، تحقيق د. سامي الدهان. 

22. سيف الدولة الحمداني أو مملكة السيف ودولة الأقلام، د. مصطفى الشكعة. 

23. فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين، د. مصطفى الشكعة. 

24. قلعة حلب تاريخها ومعالمها الأثرية، د. شوقي شعث. 

25. كنوز الذهب في تاريخ حلب، سبط ابن العجمي ت884هـ، تحقيق د. شوقي شعث، وفالح البكور. 

26. محاضرات عن الحركة الأدبية في حلب (1800-1950): سامي الكيالي 

27. معادن الذهب في الأعيان المشرفة لحلب : لأبي الوفاء العرضي الحلبي ت1071هـ، تحقيق د. محمد ألتونجي. 

28. موسوعة حلب المقارنة: لخير الدين الأسدي 

29. نهر الذهب في تاريخ حلب : كامل الغزي ت1351هـ، تحقيق د. شوقي شعث والأستاذ محمود الفاخوري. 

30. اليواقيت و الضرب في تاريخ حلب : نسب إلى إسماعيل أبي الفداء، تحقيق محمد كمال، وفالح بكور . 

وكثرة الكتب في هذا الباب تدل دلالة أكيدة على سمو مقام حلب في تاريخنا العلمي والأدبي، وإنه لمقام عظيم. 

 

الهوامش: 

1 - معجم البلدان لياقوت، (2/282-290)، دار صادر، بيروت، 1404هـ/1984م. 

2 - تاريخ الخلفاء، للسيوطي، ص (123)، دار الفكر، بيروت. 

3 - تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني، د. شوقي ضيف، ص(270-271)، دار المعارف. الطبعة الثانية. 

4 - مختارات البارودي، (4/236)، المكتبة الجامعة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1404هـ/1984م. 

5 - ديوان المتنبي بشرح العكبري، صححه مصطفى السقا وزميلاه، (3/153-157)، دار الفكر. 

6 - سيف الدولة الحمداني أو مملكة السيف ودولة الأقلام، ص (181-182) عالم الكتب، بيروت، ومكتبة المتنبي، القاهرة. 

7 - انظر مزيد من المعلومات عن بعض هذه الكتب في: نهر الذهب في تاريخ حلب : كامل الغزي، تحقيق د. شوقي شعث والأستاذ محمود الفاخوري، دار القلم العربي حلب، مقدمة المحققين، (1/7-10)، الطبعة الثانية، 1412هـ/1991م. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين