مدح القوة والشجاعة وذم الجبن والعجز

الشيخ مجد مكي

 
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من الجبن. ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضَلَع الدين وغلبة الرجال) ضَلَع الدين: بفتح الضاد المعجمة واللام هو شدته وثقله حمله.
وما أحسن جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تعوِّذه بين الهمِّ والحزن؛ لأن الهمَّ خوف ما يتوقع من الحالات، والحزن عبارة عن الأسف على ما فات، وبين العجز والكسل؛ لأن العجز ضعف الغني عن شهود قدرتها على ما يراد، والكسل ضعف البدن عن أداء ما وجب على العباد.
وبين البخل والجبن: لأن البخل عدم الجود بالمال، والجبن عدم السماحة بالنفس في القتال. وبين ضَلَع الدين وغلبة الرجال: لأن ضلع الدين هو غلبة على الباطن بشدة الاهتمام، وغلبة الرجال هو استيلاؤهم على الظاهر بقهر الاحتكام.
الجبن ضد الشجاعة، والشجاعة: ثبات القلب على عزمه فيما يتوجه إليه مما يراد منه، وهو الأصل في اكتساب كل كمال والفوز بكل مقام عال.
فإن ضعف القلب كان ذلك سبب الجبن، وإن أفرط في القوة كان ذلك سبب التهور، وكلاهما مذموم، والمطلوب اعتدال القلب بين التفريط والإفراط، وذلك الاعتدال هو سبب الشجاعة ومنشؤها.
ويلزم الجبان أن يعالج الجبن بإزالة علته، وعلته: إما جهل فيزول بالتجربة، وإما ضعف فيزول بارتكاب الفعل المخوف مرة بعد أخرى، حتى يصير له عادة وطبعاً، إذاً الأخلاق قابلة للتغيير والتبديل.
فلا ينال كل مطلوب إلا بالشجاعة، حتى لو همت ـ مثلاً ـ أن تتصدق بشيء من مالك خار طبعك، ووهي قلبك لمفارقته، وعجَّزتك نفسك بتوقع الاحتياج إليه كما قال تعالى:[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ] {البقرة:268}.
وروى أحمد وابن خزيمة والحاكم قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يخرج رجل شيئاً من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً ) زاد البيهقي 4/187: (كلهم ينهي عنها).
فأوجب وسواس الشيطان، تردد الهمة بين العطاء والمنع، فإذا حققت عزمك وقويت نفسك، وشددت همتك، زال التردد وأقدمت على العطاء.
ولهذا كان المتصدق سراً أقوى المخلوقات وأشدها، كما روى الترمذي و البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتكفأ فأرساها بالجبال فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالت: يا ربنا هل خلقت خلقاً أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الحديد ؟ قال: النار. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من النار ؟ قال: الماء. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الماء؟ قال: الريح. قالوا: فهل خلقت خلقاً أشد من الريح ؟ قال: ابن آدم إذا تصدق بصدقة بيمينه فأخفاها من شمال) هذا لفظ الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فمن قدر على إخفاء الصدقة فهو من أشد المخلوقات وليس المراد شدة بدنه، وإنما المراد قوة قلبه وثباته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
ولا يتمكن الإنسان من نيل مكرمة، ولا دفع كريهة إلا بالشجاعة المعبر عنها بقوة القلب. فبقوة القلب يتحقق امتثال الأوامر والانتهاء عن النواهي، وبقوة القلب ينتهي عن اتباع الهوى، وبقوة القلب تقتحم الأمور الصعاب، وتحتمل أثقال المكاره، وبقوة القلب تكتم الأسرار ويدفع العار.
وإن الشجاع كل الشجاع من وهبه الله قوة يقدر بها على قهر أعدى الأعداء له وهو نفسه كما في الأثر: ( أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك).
فمن ملك نفسه وصرفها حيث أوجب الشرع من إقدام وإحجام، واجتناب وارتكاب، وارتكاب، وإقبال وإدبار، فذلك هو الشجاع لا من كان مصراً على حاله، مرتكباً لهواء وضلاله، لجوجاً فيما رام، صبوراً على التعب والنصب والآلام، كما كان ذلك من أخلاق الجاهلية الأولى، فإن هذا من صفات الذئاب والحمير والخنازير.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرَعة)، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. رواه ومسلم. وفي رواية لابن حبان: (ليس الشديد من غلب الناس، وإنما الشديد من غلب نفسه).
إن الإقدام لا يقوم أجلاً، وأن الجبن لا يبلغ أملاً، بل هو شر خصال الرجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( شر ما في الرجل شح هالع، وجببن خالع) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قوله: (جبن خالع) أي خالع لقلبه بشدة تمكنه منه واستيلائه عليه، والجبن يرجع في الحقيقة إلى شك في القدر، وسوء ظن بالله، لأن من علم يقيناً أن الأجل لا يزيد ولا ينقص كما قال تعالى:[ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {الأعراف:34}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) رواه الترمذي.
وفي رواية للبيهقي: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
كان أشجع الناس على الإطلاق، وأقواهم قلباً وأثبتهم جناناً سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حضر المواقف الصعبة المشهورة، وفرَّ الكماة والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصت له فرَّة أو فترة، سواه فإنه لم يفر قط صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك ثم حاشاه.
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبل الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة، وفي عنقه السيف وهو يقول: (لم تراعوا...لم تراعوا).
وقال علي رضي الله عنه: كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً. رواه مسلم.
ولما رآه أبي بن خلف يوم أحد وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، وقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي فرس أعلفها كل يوم فَرْقاً من ذرة، أقتلك عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أقتلك إن شاء الله.
فلما رآه يوم أحد، شدَّ أبيٌّ على فرسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترضه رجال من المسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا. أي: خلوا طريقه وتناول الحربة من الحارث بن الصمة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشُعراء ـ ذبان أحمر ـ عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله النبي صلى الله عليه وسلم وطعنه في عنقه طعنة تدأدأ ـ تدحرج وسقط ـ عنها عن فرسه، وقيل: بل كسر ضلعاً من أضلاعه، فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: لا بأس، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق عليَّ لقتلني، فمات بسرف في قفولهم إلى مكة).
وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه: سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ قال البراء: رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكان هوازن يومئذ رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكفؤوا فأقبلنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، و لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث ـ ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ـ آخذ بلجامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب.
وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع ركانة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، صرعه ثلاث مرات وكان من أشد الناس، وكان ذلك سبب إسلامه.
وكذلك الشجعان من أمته والأبطال لا يحصون عدة ولا يحاط بهم كثرة لاسيما أصحابه الممدوحون في التنزيل بقوله سبحانه:[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] {الفتح:29}.
فمنهم: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الخلق بعده: سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهذا أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان أثبتهم قلباً، وأقواهم جناناً، وحسبك من ذلك ثبات قلبه يوم بدر، وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كفاك بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك.
وثبات قلبه يوم أحد، وقد صرخ الشيطان بأن محمداً قد قتل، ولم يبق أحد مع أحد، وهو في ذلك ثابت القلب ساكن الجأش.
وثبات قلبه يوم الخندق وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وثبات قلبه يوم صلح الحديبية، و ثبات قلبه يوم حنين حين فر الناس وهو لم يفر.
ولو لم يكن من شجاعته إلا ثبات قلبه وتثبيته المسلمين عند الخطب الأعظم  بموت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ زاغت قلوب المسلمين، وزلزلوا بموته زلزالاً شديداً، واقعد بعضهم، وشك آخرون، لكفانا ذلك دليلاً على عظم شجاعته وقوة قلبه، إذ كان قلبه في تلك النازلة العظمى التي اهتزت لها الدنيا بأجمعها، لو وزن بقلوب الأمة لرجحها.
وكان عزمه في قتال من ارتد حينئذ، لو وزع على قلوب الجبناء من أهل الأرض لوسعهم، إلى أن قام بمهمة قناة الإسلام بعد اعوجاجها، وجرت الملة على منهاجها... فتلك الشجاعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تنازلت لها أعالي الهمم، فرضوا أن الله عليه وعلى بقية الصحابة.
ومنهم: سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين وناصر الدين رضي الله عنه، وحسبك من شجاعته وقوته قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: ( والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعزَّ الدين بعمر بن الخطاب).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ) رواه البخاري.
وشجاعته رضي الله عنه في إسلامه وإظهاره الدين في أقصى الغايات وأعلى النهايات ولولا خشية الإطالة لذكرنا طرفاً من ذلك. وذكر القرطبي أن عمر رضي الله عنه كان يمسك أذنه اليسرى بيده اليمنى ويثب فيصير على ظهر الفرس من غير أن يمسك شيئاً بيده).
وأشهر الصحابة بالشجاعة، وإن كانوا كلهم شجعاناً، هو الليث الحصار والغيث المدرار، ومفرق كتاب المشركين، سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة.
ومن شجعان هذه الأمة وأبطالها، وأعيان فرسانها ورجالها: طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.
ـ ومنهم الزبير بن العوام رضي الله عنه الليث الهمام والبطل المقدام أحد العشرة المبشرين بالجنة.
ـ ومنهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشر، وفارس الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله.
ـ ومنهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين أيضاً.
ـ ومنهم: أسد الله حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ ومنهم: ذو الجناحين، جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في زمن كادت تضيع فيه معالم الإسلام، وأصبحت الأمة الإسلامية الجريحة مخفوضة الرأس مطعونة القلب من الذل والصغار الذي وصلت إليه.
في هذا الزمن رأينا بصيصاً من النور والأمل... بخروج ثلة صالحة لمناصرة الدين ودفع الظلم، وإحقاق الحق... تعلموا كيفية التوكل على الله والصبر والمحبة والإخاء... امتزجت الدماء العربية بالدماء الأعجمية لكي يلقنوا القومية درساً من دروس الحياة ويعلنوا أمام العالم: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً         فلله أوس قادمون وخزرج
وإن سجوف الغيب تخفي طلائعاً         مجاهدة رغم الزعازع تخرج
لقد كتبوا التاريخ بالمداد الأحمر بالدماء:
دع المداد وسطر بالدم القاني             وأسكت الفم وانطق بالفم الثاني
فم المدافع في وجه الطغاة له               من الفصاحة ما يزري بسحبان
 
صامت لو تكلما               لفظ النار والدما
قل لمن عاب صمته            خلق الحزم أبكما

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين