مختصر في صلاة الزلزلة

 

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:

فلما وقع الزلزال بالعراق وبلاد الأتراك وفارس بالأمس وأصاب الناسَ منه خوف عظيم حتى خرجوا من بيوتـهم إلى الشوارع والحدائق، أعلمتُ بعض إخواننا بمشروعية الصلاة لدفع هذا الكرب العظيم وتجنب حوادثه، ثم حررت لهم هذه العجالة في حكم الصلاة عند وقوع الزلزال، رجاء النفع به.

ولا ريب أن هذه الزلازل تقع بذنوب العباد وظهور الفساد في البر والبحر، وقد قال عطاء في قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال: الزلازل والأهوال، وإنما يخوّف الله بـها عباده ليراجعوا دينهم كما قال (وما نرسل بالايات إلا تخويفا).

وقد ذكر الحافظ جلال الدين في (الأوائل) أن أول زلزلة وقعت في السلام سنة 12 من الهجرة زمن عمر، ذكره صاحب (المرآة) عن هشام، لكن في (مسند ابن أبي شيبة) عن شهر قال: زلزلت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأول زلزلة كانت في الدنيا حين قتل قابيل هابيل. أهـ

والخبر عن شهر عند ابن أبي شيبة بسند ضعيف معضل، وتمامه: (زلزلت المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه)

وهذه الصلاة قد ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقي في (السنن الكبير) واحتج لها بالعموم وعمل السلف وبوب عليه، فأما العموم فنحو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم آيةً فاسجدوا) والزلازل من الايات العظيمة.

وأما الآثار فنوعان: نوع عام كقول أنس رضي الله عنه: (إن كانت الريحُ لتشتدُّ فنُبادر إلى المسجد مخافةَ القيامة) وقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعتم هاداً من السماءِ فافزعوا إلى الصلاة).

ونوع خاص كما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه صلّى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات خمس ركعات، وسجدتين في ركعة، وركعةً وسجدتين في ركعة. 

ثم حكى عن الشافعي أنه قال: (ولو ثبت هذا الحديثُ عندنا عن علي رضي الله عنه لقُلنا به) وقد ضعفه ابن الملقن وابن رجب وابن حجر وغيرهم، وهي من المسائل التي علّق الشافعيُّ القولَ بـها على الصحة كما شرحناه في كتاب (التحديث فيما علّقه الشافعي على صحة الحديث).

ولذا قال البيهقي: هو عن ابن عباس ثابت ثم أسند عنه أنه صلّى في زلزلة بالبصرة فأطال القنوت ثم ركع، ثم رفع رأسَهُ فأطال القنوت ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت ثم ركع فسجد، ثم قام في الثانية ففعل كذلك، فصارت صلاتُهُ ستَّ ركعات وأربع سجدات. 

والركعات هي الركوع، فيصلي ثلاث ركعات في كل ركعة ركوعان.

قال قتادةُ في حديثه: (هكذا الآيات) وقال ابنُ عباس: (هكذا صلاة الآيات) وصححه الحافظ ابن رجب في (شرح البخاري) له، وقد روى حذيفة نحوه أنه صلى بالمدائن بأصحابه صلاة الزلزلة ذكره أبو محمد بن حزم.

وأخرج الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في صلاة الآيات فيركع ثلاث ركعات ويسجد سجدتين ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات ثم يسجد سجدتين.

وقد صوب ابن رجب أنه موقوف، واستدل به على صلاة الزلزلة كما هو ظاهر لدخولها في عموم الآيات بطريق الأولى، وظاهر تصرف أبي داود في (السنن) أنه يصلى لها. 

وتصلى في جماعة عند ابن مسعود وابن عباس وأحمد وإسحق وأبي ثور وأهل الحديث واختاره ابن المنذر، وقد ذكر أبو إسحاق لجوزجاني في كتاب (المترجم) عن إسماعيل ابن سعيد قال: سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر والزلازل؟ فقال: تصلى جماعة، ثمان ركعات وأربع سجدات، وكذلك الزلزلة، قال: وبذلك قال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة، وقال: كان ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة، وهو قول الإمامية وعامة العترة المطهرة.

وعند الجمهور تصلى في فرادى وهو قول الشافعي والحنفية وسفيان الثوري وعامة أهل الرأي وأبي الحسن اللخمي وابن التين من المالكية وقياس قول أشهب، وهل تصلى كصلاة الكسوفين كما هو قول الأكثر أو كالصلاة المعتادة وبه قطع ابن أبي الدم من الشافعية وغيره.

وأنكر مالك وعامة أصحابه السجود في الزلازل وإنما فيه عندهم الدعاء وقد ألمع إليه البخاري في (كتابه).

وروى حرب بإسناده عن أبي الجبر قال: أظلمت يوماً نـهاراً حتى رأينا الكواكب، فقام تميم بن حذلم فصلى، فأتاه هنيُّ بن نويرة فسأله ما صنع؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي.

قال ابن رجب: وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام أنـهم كانوا يأمرون عند الزلزلة بالتوبة والاستغفار ويجتمعون لذلك، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم ونـهاهم، واستحسن ذلك الإمام يعني أحمد.

وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى أهل الأمصار: إن هذه الرجفة شيء يعاتب الله به العباد، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا أن يخرجوا يوم كذا وكذا، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول: (قد أفلح من تزكى) وقولوا كما قال أبوكم آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وقولوا كما قال نوح: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) وقولوا كما قال موسى: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) وقولوا كما قال ذو النون: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).

وقد ذكر أبو بكر الخلال عن أحمد أن أبا المغيرة حكى أن رجفةً وقعت بحمص سنة أربع وتسعين، ففزع الناس إلى المسجد فلما صلوا الغداة خطبهم أيفع بن عبد الكلاعي وأنذرهم وحذّرهم ونزع القوارع من القران.

ثم قال لأبي ضمرة القاضي: قم في الناس، فقام فصنع كما صنع، أيفع، فلما قضى موعظته انصرف، ثم صنع ذلك دبر الصلوات ثلاثة أيام، فاستحسن ذلك المسلمون.

ونقل ابن عساكر في جزء مفرد جمعه في الزلزلة عن الأوزاعي والوليد بن مسلم وإسحاق بن راهويه استحباب الفرار من الزلزال إلى الصحراء والفلوات وغيرها، وقواه ابن رجب والعبادي وغيرهما.

وقد ذكر أبو شامة المقدسي في (تاريخه) وقوع الزلزلة بالشام وخروج الناس فراراً منها إلى البساتين والصحراء فأقاموا فيها ليالي يسبحون ويهللون.

وقال الذهبي في حوادث سنة ثلاث وثلاثين ومائتين: (فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق، دامت ثلاث ساعات وسقطت الجدران، وهرب الخلق إلى الـمُصَلَّى يجأرون إلى الله، ومات عدد كبير تحت الرَّدْم، وامتدت إلى أنطاكية، فيقال إنه هلك من أهلها عشرون ألفاً، وامتدت إلى الموصل، فزعم بعضهم أنه هلك بـها تحت الردم خمسون ألفاً).

وذكر الموفق عبد اللطيف البغدادي في (الإفادة والاعتبار) حدوث زلزلة عظيمة اضطرب لها الناس، فهبّوا من مضاجعهم مدهوشين وضجوا إلى الله سبحانه، ولبثت مدة طويلة كانت حركتها كالغربلة أو كخفق جناح الطائر، وانقضت على ثلاث رجفات قوية مادت بـها الأبنية واصطفقت الأبواب وصرصرت السقوف والأخشاب، وتداعى من الأبنية ما كان واهياً أو مشرفاً عالياً.

قال: ثم أخذت الأخبار تتواترُ بحدوث الزلزلة في النواحي النائية والبلاد النازحة في تلك الساعة بعينها، ولذا صحَّ عندي أنـها حركت في ساعة واحدة طابقةً من قوص إلى دمياط والإسكندرية ثم بلاد الساحل بأسرها والشام طولاً وعرضاً، وتعفّت بلادٌ كثيرةٌ بحيث لم يبقَ لها أثرٌ، وهلك من الناس خلقٌ عظيم وأُمَمٌ لا تُحصى، ولا أعرف في الشام بلداً أحسن سلامة من القدس فإنـها لم تُنْكَ فيه إلا ما لا بال، كانت نكاية الزلزلة ببلاد الإفرنج أكثر منها في بلاد الإسلام كثيراً، وسمعنا أن الزلزلة وصلت إلى أخلاط وتخومها وإلى جزيرة قبرص، وأن البحر ارتطم وتموَّجَ وتشوَّهت مناظره فانفرق في مواضعَ وصارت فرقه كالأطواد، وعادت المراكب على الأرض وقذف سمكاً كثيرا على ساحله.!

وذكر ابن فضل الله في (تاريخه) وقوع زلزال بالشام سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة خربت منه قلعة شيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية وغيرها من البلاد المجاورة لها، حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين بن زنكي في ذلك القيام الرضيّ من تداركها بالعمارة، ويكفي أن معلم كُتّاب كان بمدينة حماه فارق المكتب، وجاءت الزلزلة فسقط المكتبُ على الصبيان كلّهم، فلم يحضر أحد يسأل عن صبيّ هناك لهلاكهم.!

وقد قال بعض الشعراء في هذا:

روعَتْنا زلازلٌ حادثات.........بقضاءٍ قضاه ربُّ السماء

هدّمت حصنَ شيزرَ وحماه....أهلكتْ أهلَهُ بسوء القضاء

وبلاداً كثيرةً وحصونا...............وثغوراً موثّقات البناء

وإذا ما قضي من الله أمر.......سابقٌ في عباده بالـمضاء

حار قلبُ اللبيب فيه ومن....كان له فطنةٌ وحسنُ ذكاء

وبعض هذا الذي وصفه الموفق وغيره كالمقريزي ومن صنف في البلدان والحوادث، أشبه بالتسونامي والله أعلم، وقد قال أبو بكر الزيات: 

إنَّ الزلازلَ قد تفاقم أمرُها...والناسُ منها في اتّصالِ همومِ

والأرضُ في أقطارها مرتجَّةٌ ... تحت الأنامِ كرَعْدَةِ المحمومِ

وقال ابن مكرم:

هزَّتكمُ الأرضُ بزلزالها...لما اشتغلتمْ باكتسابِ الحُطامْ

كأنـها قالتْ لقد طال ما ..... غفلتمُ فانتبهوا يا نيامْ

ونسأل الله أن يحفظ بلاد لإسلام بأسرها من الفتن والحوادث، آمين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين