مختصر تفسير ابن عاشور (3)

التفسير بالرأي

وهو صحيح واقع على عهد السلف لوجهين: أحدهما: أنه لم يثبت من التفسير النبوي إلا آيات معدودة، والثاني: اختلاف الصحابة في التفسير على وجوه لا يمكن أن تصدر إلا عن رأيهم لتعذر الجمع بينها، قاله الغزالي والقرطبي.

ويشهد لصحته دعاؤه عليه الصلاة والسلام لابن عباس بعلم التأويل، وحديث علي عند البخاري: (إلا فهماً يؤتيه الله لرجل في كتابه) وقد نص الغزالي والفخر على جواز استنباط تفسير لم يؤثر عن السلف، وسئل ابن عيينة عن قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون) فقال: هي تسلية للمظلوم وتـهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال: قاله من علمه، يريد نفسه، وسأل عمر الصحابةَ عن التفسير ولم يشترط عليهم أن يكون مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن التابعين قالوا في التفسير برأيهم ما لم يؤثر عن الصحابة.

وما ورد من التنفير عن التفسير بالرأي كقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار) وفي لفظ: (فأصاب فقد أخطأ) وكراهة بعض السلف له كابن المسيب والشعبي، وقول أبي بكر: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في القران برأيي) فمحمول على الورع والمبالغة في التنفير عن التفسير بالرأي المجرد عن الدليل من النظر والقواعد، والهجوم على التفسير دون تدبر كمن يفسر (ما أصابك من حسنة فمن الله) على ظاهرها فينسب الشر لفعل العبد ويغفل عن قوله (قل كل من عند الله) ألا ترى أن أبا بكر سئل عن الكلالة؟ فقال: أقول فيها برأيي.

ومن الرأي المذموم تفسير القران بما يوافق اعتقاده كتفسير المعتزلة (إلى ربـها ناظرة) بأن (إلى) واحد الآلاء وهي النِّعَم فالمراد انتظار نعمته، وتفسير البيانية أصحاب بيان بن سمعان أنه المقصود بقوله (هذا بيان للناس) وتفسر المنصورية أصحاب أبي منصور الكِسف أنه المقصود بقوله (وإن يروا كسفاً من السماء) وتفسير الباطنية كالقاشاني وأصحاب رسائل أخوان الصفا قوله (وعلى الأعراف رجال) إنه مقر أهل المعارف، بدعوى أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن للقران ظهراً وبطناً) وهذا لا يصح، على أن ابن عباس روي عنه أنه فسر ظاهره بالتلاوة وباطنه بالتأويل، والتحقيق أنه لا ينبغي حمل ألفاظ الشارع كلها على باطنها ولا أن تخرج كلها عن ظواهرها لاختلاف الأنظار وتباين الأفهام، قاله القطب الشيرازي وحكاه ابن رشد إجماعاً.

ومن ثم شرط الطيبي للتفسير بالرأي أن يكون (مطابقاً للفظ من حيث الاستعمال، سليماً من التكلف، عرياً عن التعسف) وإلا كان من بدع التفسير كما قاله الزمخشري.

وأما التفسير الإشاري عن الصوفية ففيه قولان: المنع وهو اختيار ابن العربي، وذهب الغزالي إلى قبوله بشرط عدم القطع أنه المقصود أصالة واحتمله النظم، كتفسير عطاء في البخاري قوله (بدلوا نعمة الله) بكفار قريش (وأحلوا قومهم دار البوار) بيوم بدر، فلا بأس به إذا كان بقصد التمثيل كتفسير (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) أنـها القلوب (وسعى في خرابـها) بالهوى، ومنه اقتباس للموعظة كتفسير (فعصى فرعون الرسول) أنه الذي لا يمتثل رسول المعارف، فهذه معاني حسنة وإن لم تكن من دلالة اللفظ، ومنه للتفاؤل كتفسير (من ذا الذي يشفع) من ذل ذي أي النفس يصير من المقربين، فهذا مردود لمخالفته النظم.

مقاصد التفسير وأغراضه

لا ريب أن القران أُنزل لصلاح الأفراد في بواطنهم بتصحيح اعتقاداتـهم وتزكية سرائرهم، وصلاح ظواهرهم بالعبادة والأخلاق، وبه يحصل الإصلاح الجماعي إذ لا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، بضبط معاملاتـهم وتصرفاتـهم، والإصلاح العمراني بحفظ نظام العالم، سواء أمكن الاطلاع على تمام مراد الله كما هو قول أهل السنة والمشائخي والسكاكي من المعتزلة، أو لا يمكن على قول أكثر المعتزلة.

ومن أشرف أغراض القران: إصلاح العقائد بالتوحيد وتصفيتها من أوهام الشرك، وتـهذيب الأخلاق كما أشارت إليه عائشة بقولها (كان خلقه القران) وقال الهذلي:

فليس كعهد الدار يا أُمَّ مالك....ولكنْ أحاطت بالرقاب السلاسلُ

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل...سوى العدلِ شيئاً فاستراح العواذلُ

وبيان الشرائع الكلية التي يتفرع عنها ما لا حصر له من الأحكام الجزئية قاله الشاطبي، وسياسة الأمم بإصلاح نظام العالم، والموعظة بقصص وأخبار الأمم الخالية للتأسي والاعتبار، وتعليم الناس بما يناسب حال كل عصر، والإعجاز للدلالة على صدق المبلّغ.

ولأهل التفسير ثلاث طرق: الاقتصار على ظاهر المعنى وهو الأصل، واستنباط معان تقتضيها دلالة اللفظ والمقام ولا تجافي الاستعمال ومقاصد القران، وبسط العلوم لمناسبة المعنى القرآني وتوقفه عليها ورد المطاعن عن القران، كالكلام على دليل التمانع لتقرير الوحدانية من قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) بشرط أن لا يذكر منها إلا ما يقتضيه المقام، خلافاً للشاطبي في المنع مطلقاً بدعوى عدم وروده عن السلف، وهو منتقض بأن القران لا تنقضي عجائبه فلا تنحصر علومه وهو مقتضى إعجازه وشموله، وللغزالي والجمهور في الجواز مطلقاً، فلا ينبغي الاستطراد بحيث يخرج عن المقصود ويثقل التفسير بمباحث كلامية ولغوية وفقهية كما أملى ابن العربي على قصة موسى والخضر ثمانمائة مسألة.!

واعلم أن العلوم في القران أربع مراتب: ما تضمنه القران كالتشريع والأخبار والأخلاق، وما أشار إليه كالطب والكلام، وما يزداد به المفسر فهماً كالحكمة والهيئة، وما لا تعلق له بالقران إما لبطلانه كالعيافة، أو لأنـه لايخدمه كالعروض والقوافي.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين