مختصر تفسير ابن عاشور (2)

استمداد علم التفسير

أي: ما يتوقف عليه من العلوم السابقة عليه وجوداً، وقد قال البيضاوي: (لا يليق لتعاطي التفسير والتصدي للتكلُّم فيه إلا من برع في العلوم الدينية والأدبية كلها أصولها وفروعها) ولا تعارض بين كون التفسير رأس العلوم وبين استمداده منها، لأن المراد أنه أصلها من حيث الإجمال، واستمداده منها لقصد تفصيل التفسير، قاله عبد الحكيم.

فمن العلوم التي يستمد منها التفسير: العربية وهي مجموع علوم اللسان ولا سيما المعاني والبيان كما قال السكاكي والزمخشري، فبها يُعرف مقاصد العرب من كلامهم ويظهر إعجاز القران المتحدى به، ومن ثم قطع ابن رشد بجهالة القائل بعدم الاحتياج إلى اللغة وأفتى بتأديبه.

وكالأدب وأخبار العرب وعوائدها فبذلك يُكتسب الذوق الذي يُدرك به بلاغة الكلام العربي وأغراضه، وهو نظير السليقة الحاصلة بالطبع عند البلغاء الأُول، كما روي عن عروة أنه قال لعائشة: أرأيتِ قوله (فلا جناح عليه أن يطوف بـهما) فما على الرجل إذا لم يطف بـهما؟ فقالت: كلا، لو كانت كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بـهما، إنما نزلت في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية حذو قُديد، فكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا عن ذلك فنزلت الاية.

وكالشعر فبه ينكشف للمفسر المعاني الخفية كما روي عن عمر أنه سألهم عن التخوف في قوله (أو يأخذهم على تخوف)؟ فقال هذليٌّ: التنقص، وأنشده:

تخوّف الرحلُ منها تامكاً قرداً....كما تخوّف عودُ النبعة السَّفَنُ

فقال عمر: (عليكم بديوانكم لا تضلوا) وقال ابن عباس: (الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القران رجعنا إلى ديوانـهم فالتمسناه فيه) وقد سئل عن السِّنَة في قوله (لا تأخذه سنة) فقال: النعاس وأنشد لزهير:

لا سِنةٌ في طوال الليل تأخذه...ولا ينام ولا في أمره فندُ

وسئل عكرمة عن الزنيم؟ فقال: ولد الزنا، وأنشد:

زنيمٌ ليس يُعرف من أبوه....بغيُّ الأُمّ ذو حسب لئيمِ

وبه يترجح له وجوه الاحتمالات، كمن شك في قوله (وامسحوا برؤسكم) هل الباء فيه للتأكيد أو الآلة أو التبعيض؟ فيترجح له أنـها للتأكيد بقول الأعشى:

فكلُّنا مغرمٌ يهوى بصاحبه....قاصٍ ودانٍ ومحبولٌ ومُحتَبلُ

وما روي عن أحمد أنه سئل عن التمثل بالشعر في التفسير، فقال: ما يعجبني، إن صح فهو محمول على كراهته في إثبات صحة ألفاظ القران كما يقع من الملاحدة كابن الراوندي في سؤاله منكراً: (أتقول العرب لباس التقوى)؟ فقال له ابن الأعرابي: (هبك تنكر أن يكون محمد نبياً، أفتنكر أن يكون فصيحاً عربياً).؟!

ويدخل في اللغة القراءات إذا صح سندها ووافقت الاستعمال العربي، فإنـها حجة في ترجيح المحتملات كالشاهد من الشعر، كما احتجوا على أن أصل (الحمدُ لله) منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الحمدَ لله).

ويستمد من القران فما أجمل في موضع فُسّر في آخر، كتفسير الظلم في (ولم يلبسوا إيمانـهم بظلم) بأنه الشرك لقوله (إن الشرك لظلم عظيم) ومن الأثر كتفسير النبي عليه الصلاة والسلام لما لا يدرك معناه إلا بتوقيف كالمغيبات والمجملات، ولهذا كان قليلاً كما قالت عائشة: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفسر من القران إلا آيات معدودات علمهن إياه جبريل) كتفسيره لعدي الخيط الأبيض من الأسود ونحوه.

وتفسير الصحابة الذين شهدوا التنزيل والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول كما روي عن قدامة أنه شرب الخمر فأراد عمر أن يحدّه فقال: إن الله يقول: (ليس على الذين آمنوا جناح فيما طعموا..) فقال عمر: ألا تجيبوه؟ فقال ابن عباس: إن هذه الاية نزلت عذراً للماضين ممن شرب الخمر قبل تحريمها إذا كان من المؤمنين، فقال عمر: صدقت.

ولأن الصحابة علموا مبهمات القران كتفسير (ذرني ومن خلقت وحيداً) أنه الوليد بن المغيرة، وأن (المغضوب عليهم) اليهود و(الضالين) النصارى، وأن المرأتين اللتين تظاهرتا حفصة وعائشة، ونحو ذلك.

وتعقب المصنفُ عدَّ القران والآثار من مواد التفسير بأنه من التفسير لا من مواده، فإنه من حمل بعض الكلام على بعض كتخصيص العام وتبيين المجمل وتأويل الظاهر ونحو ذلك.

ويستمد من الأصلين، فأما أصول الفقه فقطع به الغزالي لاشتماله على مباحث عربية، ولأن قواعده تضبط طرق استنباط المعاني، ومنها الإجماع كإجماع الصحابة على أن الأخت في آية الكلالة الأولى الأخت للأم، وإجماعهم على أن الصلاة في سورة الجمعة صلاة الجمعة.

وأما الكلام فقطع بأنه مادة التفسير عبد الحكيم والألوسي، لتوقف فهم ما يجوز ويستحيل في ذات الله على الكلام، كالمتشابه من آيات الصفات، قاله الجرجاني، وتعقبه المصنف بأن ما يجوز ويستحيل على الله متقرر عند السلف قبل الكلام، فلا يحتاج إليه إلا في التوسع في إقامة الحجة، وفيه نظر من جهة أن قواعد الكلام حاصلة للسلف بالبديهة قبل تمهّد الفن كالعربية.

وعد السيوطيُّ الفقهَ من مواد التفسير وتعقبه المصنف بأنه متأخر عنه ولا يتوقف عليه فهم القران، وإنما يحتاج إليه عند قصد التوسع في تفسير أحكامه تشريعاً وآداباً، والصحيح أنه يحتاج فيه إلى كليات الفقه دون فروعه.

وحكى ابن هشام عن أبي علي الفارسي أن القران كالسورة الواحدة فما ذكر في آية فجوابه في غيرها، مثل (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) جوابه (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) وتعقبه المصنف بأنه لا يتعين أن يكون المقصود في بعض الآيات مراداً في نظائرها، فقد تستقل بمعنى جديد، وفيه أن استقلالها بمعنى جديد لا ينافي حصول الجواب بوجه غير الوجه الذي ورد به المعنى المستقل.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين