مختصر تفسير ابن عاشور (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحكم كتابه المبين، وجمع فيه مصالح الدنيا والدين، فاحتوى على كليات العلوم ومعاقد فصولها، واشتمل من البلاغة على فروعها وأصولها، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبيّن بسُنته للتنزيل، وعلى آله وأصحابه الذين هم أعلم الناس بالتأويل، وأتباعهم العلماء السالكين على طريقهم بأوضح حجة وأهدى سبيل.. وبعد:

فإن تفسير الإمام العلامة محمد الطاهر ابن عاشور الموسوم بــ(التحرير والتنوير) كتاب كثير الفوائد، جميل المقاصد، قد وقع عند كافة العلماء بالمشرق والمغرب موقع الاستحسان، وتلقوه بالقبول والرضوان، لكونه سهل المأخذ مليح العبارة، مشتملاً على مباحث منيفة، ودقائق لطيفة، ونُكت شريفة، هي خلاصة أُمّات التفاسير التي تجري مجرى الأصول كابن جرير وابن عطية والقرطبي والفخر والكشاف والبيضاوي وحواشيهما والألوسي وغيرها.

لكنه لغور نجمه، وضخامة حجمه، عسر على كثير من أهل التحصيل إلا الأفراد منهم، اقتناص شوارده، وتقييد فوائده، وإدراك أغراضه وعوائده، فأشار عليَّ بعض الفضلاء، بتلخيص مقاصده، وتخليص زوائده، وتقريب مباحثه، وتيسير مطالبه.

فاستحسنتُ منه الإشارة، وقدَّمتُ له الاستخارة، ولا سيما في هذا الزمان الذي نبت فيه المتطفلون على علوم الكتاب من غير المختصين، حتى هجم بعضهم بلا فهم في الإنكار على أكابر المفسرين، ومخالفة إجماع أهل التأويل من الراسخين، فأطلقوا العقل في النص المحكم، من غير نظر سديد ورأي أحزم، شنشنة نعرفها من أخزم.!

وطائفة قنعت بتقليد أقوال الأقدمين، ورضيت بالنقل عن إعمال العقل في النص المبين، فهِمَّتُهم تحفُّظ المنصوص، دون تفهُّم معاني النصوص، وهؤلاء وإن كان ضررهم أخف على التأويل، لكنهم أحجموا عن إدراك مقاصد التنزيل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أعظم ما يصد الناس عن تفهّم التفسير، الاشتغال بحفظ أقوال المفسرين).

ولأجل هذا وضع الـمُصنِّفُ تحريره المنيع، وتنويره الجامع لكل معنى بديع، سالكاً فيه طريقاً وسطاً يقرأ النقل بالعقل، ويحكم العقل بالنقل والأصل، دون إفراط الحَداثيين، وتفريط المقلدين، مؤذناً بأن في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا، وأن العلم لا يخلو عمن هو بالحجة قائم، فما الكَرجُ الدنيا ولا الناسُ قاسم.

وقد أشار المصنف في صدر (تفسيره) إلى الفريقين، وألمع إلى غلط الطائفتين، بقوله (إن الناس في المنقول من تفاسير السلف أحد رجلين، معتكف فيما شاده الأقدمون، أو آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرر كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بـها جناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنُهذّبه ونزيده، وحاشا أن ننقصه أو نبيده، فإن غمص فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا السلف ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل).

وبحق جاء تفسيره موصلاً الماضي بالمستقبل، غير قاطع لـما أمر الله به أن يوصل، فاستعنتُ بالله على التحقيق، وتوسلتُ إليه سبحانه بالتوفيق، فحررتُ منه هذا التعليق، في تقريب فرائد هذا التحرير، وتـهذيب فوائد ذياك التنوير، وهذا أوان الشروع في المقصود، مستمداً العون على إنجازه من الصمد المعبود.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

مقدمة التفسير

في التفسير والتأويل

التفسير لغة: مصدر فسَّر وفَسَر وهو الإبانة والكشف، والجمهور أنـهما بمعنى، وعند الراغب والمجد أنه بالتشديد يختص بتفسير المعقولات لاحتياجها إلى كثرة القول لغموضها، والتشديد يفيد التكثير نص عليه في (الشافية) مثل فرَق للمعاني لخفتها، وفرّق للأجسام لكثافتها، لأن زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى، حكاه القرافي وقرر عدم اطراده، ونقح المصنف أن المعتبر في استعمال القران واللغة الكثرة الحقيقية والمجازية دون المحسوس والمعقول، لقوله تعالى (وقرآنا فرقناه) قرئ بالتشديد والتخفيف، ولقول لبيد:

فمضى وقدّمها وكانت عادة....منه إذا هي عرّدت إقدامُها

وروي (فمضى وأقدمها) وقد نص سيبويه على تعاقب (فعّل وأفعل).

والتفسير اصطلاحاً: (علم يبحث عن بيان معاني ألفاظ القران وما يستفاد منها) وذهب أبو عبيدة وثعلب وابن الأعرابي والراغب إلى أن التفسير هو التأويل، ورجحه المصنف لأن التأويل من أوله إذا أرجعه، فهو إرجاع اللفظ إلى المقصود منه وهو المعنى، فساوى التفسير، لدعائه عليه الصلاة والسلام لابن عباس: (وعلّمه التأويل) أي: معاني القران، لكن غلب استعمال التأويل في تفصيل المعنى الخفي، كقول الأعشى:

على أنـها كانت تأوَّلُ حُبَّها....تأوُّلَ رِبعِيِّ السقاب فأصحبا

أي: تُفسِّر حبَّها بأنه بدأ صغيراً ثم كبُر كالسقب وهو ولد الناقة.

ومن ثم قيل إن التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للخفي، وعند الأصوليين: التأويل: (صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى محتمل بدليل) كقوله تعالى (يخرج الحي من الميت) إن قيل: الطير من البيضة فهو التفسير، وإن قيل: المؤمن من الكافر فهو التأويل.

وموضوع التفسير: ألفاظ القران من حيث البحث عن معانيه، واستشكل وجه عد التفسير علماً لأن العلم إن قيل إنه مطلوب خبري يبرهن عليه بقضايا كلية، فمباحث التفسير تصورات جزئية، لأنه إما تفسير لفظ أو استنباط معنى، ففي عده علماً تسامح.

وأجيب بأنه إنما سُمي علماً لإفادة مباحثه قواعدَ كلية تتفرع عنها المعاني الكثيرة، وما قارب الشيء أُعطي حكمه، كالشعر سُمي علماً لإفادته قواعد كلية في اللغة، ولأن التفسير لا يخلو من تقرير قواعد كلية كالنسخ والتأويل وغيرهما، وفي ألفاظه كليات معروفة جمعها ابن فارس والكفوي وغيرهما، ولأن التفسير مشتمل على كليات التشريع وأصوله وقواعده.

وإن قيل إن العلم هو التصديق فتعريف ألفاظ القران يشمله، لأن التعاريف عند بعض المحققين تصديقات تؤول إلى قضايا كلية، وإن قيل إن العلم هو ملكة العقل والفهم فالتفسير أولى بذلك، لأن مزاوله يكتسب ملكة فهم دقائق نظم القران وأساليب اللغة، فصح أن يلقب بالعلم من هذه الوجوه.

والتفسير رأس العلوم الإسلامية كما قال البيضاوي، وأولها ظهوراً فإنه ظهر في عصر الصحابة، وأول من صنف فيه ابن جريج، وللعلماء فيه مسلكان، مسلك الأثر كتفسير مالك وعبد الرزاق والنسائي وابن أبي حاتم وغيرهم، ومسلك النظر كالفراء والأخفش وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم، ومنهم من جمع بينهما كابن جرير، حتى جاء الزمخشري بالمشرق فصنف (الكشاف) وغلب عليه العربية، وابن عطية بالمغرب فصنف (المحرر) والشريعة عليه أغلب، فهما أصلا هذا الفن ومعول من بعدهما من المفسرين.

يتبع...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين