مختارات من كتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذه مختارات من كتاب "مقالات في كلمات المجموعة الأولى" للشيخ علي الطنطاوي، المنشور عن دار الفتح- دمشق، ط1- 1379هـ.

1- مجرمو الغد:

إذا أردتم أن تعرفوا مجرمي الغد الخطرين السفاكين فابحثوا عنهم في ثياب أطفال اليوم البائسين المظلومين، وارفعوا الظلم يرتفع الإجرام، وأذهبوا البؤس يذهبْ الخطر، واعلموا أن هؤلاء المجرمين الذين تمتلىء بهم السجون كانوا يوما أطفالا أطهارا، وأن هؤلاء الأطفال المهملين المظلومين سيصيرون يوما مجرمين أشرارا. ص13.

2- ألْأم الناس:

ليس على ظهر الأرض مجرم أشدُّ لؤما، وأخس نفسا، وأولى بالمهانة، وأبعد عن الإنسانية، وأحق بلعنة الله والناس= من ولد يسيء إلى أمه، أو يغضب أباه. ص35.

3- دواء الهِجران:

وقع مرة بيني وبين صديق لي ما قد يقع مثله بين الأصدقاء، فأعرض عني وأعرضت عنه، ونأى بجنبه ونأيت بجنبي، ومشى بيننا أولاد الحلال بالصلح، فنقلوا مني إليه ومنه إلي، فحولوا الصديقين -ببركة سعيهما- إلى عدوين، وانقطع ما كان بيني وبينه، وكان بيننا مودة ثلاثين سنة، وطالت القطيعة وثقلت علي، ففكرت يوما في ساعة رحمانية وأزمعت أمرا، ذهبت إليه وطرقت بابه، فلما رأتني زوجه كذبت بصرها، ولما دخلت تنبئه كذَّب سمعَه، وخرج إلي مشدوها، فما لبَّثْته حتى حييته بأطيب تحية كنت أحييه أيام الوداد بها، واضطر فحياني بمثلها، ودعاني فدخلت ولم أدعه في حيرته، فقلت له ضاحكا: لقد جئت أصالحك، وذكرنا ما كان وما صار، وقال وقلت، وعاتبني وعاتبته، ونفضنا بالعتاب الغبار عن مودتنا، فعادت كما كانت، وعدنا إليها كما كنا.

وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع المختلفين لو صنع أحدهما ما صنعت لذهب الخلاف، ورجع الائتلاف، وإن زيارة كريمة قد تمحو عداوة بين أخوين كانت تؤدي بهما إلى المحاكم والسجون، وقبلة صادقة على الشفتين، تعيد الحب بين زوجين، كانا من الشقاق، على أبواب الطلاق والفراق، وكلمة جميلة تنقذ شريكين أشرفت شركتهما من خلافهما على الانحلال والزوال. ص39.

4- شيوخ الصناعات:

لقد كان في الشام في الأيام الماضية لكل صناعة شيخ، فكان فيها شيخ الحدادين وشيخ النجارين وشيخ السروجية وشيخ البساتنة، فلا يقدر عامل أن يشتغل بصناعة حتى يأذن له شيخها، وإن أخطأ بعد أو أساء كان الشيخ كفيله، فصارت الدنيا حرية.. والسمان الذي تبور تجارته يعمل كوَّاءً، ويكتب على بابه لوحة كبيرة بأنه يكوي على البخار، والخضري يشتغل نجارا، وسائق السيارة يفتح محلا للتنجيد، وتجيء فتسلمه عملك وتأتمنه عليه فيفسده لك.. فما العمل؟ لست أدري؟ ص43.

5- درس في الاقتصاد:

أنا لا أفهم كثيرا في الاقتصاد، ومع ذلك فأنا أدرك بفهمي القليل أن الأمة التي تشتري أكثر مما تبيع، وتستورد أكثر مما تصدر، ولا يكون لها برنامج اقتصادي ثابت= يكون مصيرها الإفلاس. ص46.

6- أعراضكم يا أهل الشام:

لقد كتبت في هذا حتى ملِلْت من نفسي ما أُبدىء القول وأعيده عليكم، وقلت كلاما لو نزل على قلوب نحتت من جليد الصخر لأثر فيها هذا الكلام، ولكن هذا الكلام لم يؤثر فيكم، فماذا أقول لكم؟ كيف أُفهمكم أيها الناس أن الأخلاق في خطر؟ وأنها إن استمرت هذه الحال لم تبق في البلد بنت شريفة؟ نعم.. نعم.. هكذا، لا تعجبوا من قولي، ولكن اعجبوا من سكوتكم، ولا تلوموني على صراحتي، ولكن لوموا نفوسكم على غفلتكم. ص52.

7- الشحادة والشَّحَّادون:

قال الشيخ يصف شحَّاذا في مقالة "شَحَّادون":..لحقني بعده هذا الشَّحَّاد(1) العجيب، الذي يتعلق بالمار ويصيح به: (مشا الله، مشا الله، مشان النبي) يكررها ألف مرة، وهو يمشي معه، لا ينصرف بالسب، ولا بالضرب ولا بالرفس، ولا بالنطح، ولا يستطيع شيء في الدنيا أن يصرفه.. ثم قال: الشحادة: صناعة فنية، لها أصولها وقواعدها، وتجارة واسعة، لها أسواقها وأرباحها، ونحن لا نبالي أن تشتمل مدينتنا على هذا الخزي، وتحمل هذا العار، بل إن فينا من لا يزال يعطي هؤلاء المكدين (الشحادين) المحترفين، ويحسب أنه يصنع خيرا، لا يا أيها الناس: إن الصدقة ليست لهؤلاء، إن الصدقة للفقراء المستورين، الذين يستحون أن يسألوا الناس، أما هؤلاء فلا تعطوهم؛ لئلا تشجعوهم على هذا الخزي الذي لا يرضاه الشرع، ولا يجيزه القانون، ولا يقره العرف، ولا تُسيغه كرامة الإنسان. ص55-56.

8- صورة من حياة موظف:

تحدث الشيخ في مقالة بهذا العنوان حديثا قاسيا عن الموظفين ختمه بقوله: هذه صورة من حياة أكثر الموظفين، حياة ليس فيها حياة ولا حماسة ولا اهتمام بشيء، ولا سعي إلى غاية، إلا السعي إلى قبض الراتب في آخر كل شهر، والسعي إلى التقاعد ثم إلى القبر.. وهذه هي الحياة التي لا يُقبل الشباب إلا عليها، ولا يرغبون إلا فيها، ولا يتعلمون إلا التعليم الذي يوصلهم إليها، ونريد بعد ذلك أن تكون أمة يقظة ومغامرة ومكافحة!!!. ص58.

9- الزوجة الثانية:

قابلت أمس صديقا لي فوجدته ضيق الصدر، لَقِسَ(2) النفْس، كأن به علة في جسده، أو همًّا في قلبه، فسألته أن يكشف لي أمره، فتأبى ساعة وتردد، ثم قال لي: أنت الصديق لا يُكتم عنه، وإني مطلعك على سري ومستشيرك فيه: إني أريد الزواج.

قلت: وما فعلت ربة دارك، وأم أولادك؟

قال: هي على حالها.

قلت: وهل أنكرت شيئا من خلقها أو من دينها، أو من طاعتها لك وميلها إليك؟

قال: لا والله، قلت: فلم إذن؟

قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور، وقد ألفت زوجتي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عن أن تميل إلى غيرها، وبصري عن أن يشرد إلى سواها، وأطلت عشرتها حتى ملِلتُ وذهبَت في عيني فتنتُها.

قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها، وما أعجب أمرَك تسمع صوت النفس وأنت تظنه صوت العقل، وتتبع طريق الهوى وأنت تحسَبه سبيل الصلاح، وهذا من تلبيس إبليس، ومن وساوسه؟ وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك إن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة، وتطول أُلفتُها فتصير مملولة، وتستقري جمالها فلا تجد فيها جمالا، فتطلب ثالثة، والثالثة تجر إلى الرابعة، ولو أنك تزوجت مئة مرة، ولو أنك قضيت العمر في زواج= لوجدت نفسك تطلب امرأة أخرى..

وهذي سير الملوك، الذين كانت تحمل إليهم كل جميلة من كل بلد، وكان في قصورهم آلاف الجواري من كل بيضاء وسمراء وسوداء وعربية وتركية وكرجية وافرنجية، من كل سن وكل لون، وكل جنس وكل شكل، فهل أشبع ذلك هوى نفوسهم؟ وهل عصمتهم من أن يتطلع أحدهم إلى المرأة الممنَّعة فيعشقها، أو يهيم حبا بها ولا يرى لذته إلا بقربها؟

وهل الزواج ويحك لهذا الأمر وحده؟ فأين الوفاء؟ وأين التذمم؟ وأين حقوق المعاشرة؟ وأين روابط الولد؟ وهل تقوم الحياة على الحب وحده؟

هل يُمضي زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات، وباقي العمر تعاون على الحياة، وتبادل في الرأي، وسعي للطعام واللباس وتربية للولد، واسترجاع الماضي والإعداد للمستقبل.

وهل تظنك تسعد بين زوجتين، وتعرف إن جمعتهما ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه وصادقت غريبة جئت بها تشاركها دارها ومالها وزوجها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حربا تكون أنت أول ضحاياها؟

لا يا صاحبي، لقد تغير الزمان، وتبدل عرف الناس، فعليك بزوجك، عد إليها وانظر إلى إخلاصها، لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها، فإني قرأت كتبا في تعريف الجمال كثيرة، فلم أجد أصدق من تعريف طاغور: "إن الجمال هو الإخلاص"، ولو أن ملكة الجمال خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك، ولو أخلصت لك زنجية سوداء، كأن وجهها حذاء السهرة اللَّمَّاع لرأيتها ملكة الجمال(3). ص68-70.

10- الشراء في بلاد الناس وبلادنا:

ليس شيء في بلاد الناس أسهلَ من الشراء: يدخل الرجل المخزن، فيرى البضائع المعروضة وعليها أثمانها، فيختار ما يشاء، ويدفع الثمن ويمضي، ولو جاء من بعده أمهر الناس ما استطاع أن يأخذ بثمن أقل، ولو جاء أغفل الناس ما أُعطي بثمن أكثر..

أما الشراء في بلادنا فهو معركة، تحتاج إلى أسلحة شتى؛ من الكذب، والحيلة، واليمين الكاذبة، والكر والفر، والذهاب والرجوع، ومعرفة أجناس البضائع، وتحتاج بعد ذلك إلى مفاوضات دبلوماسية أصعب من المفاوضات التي لا نهاية لها بين الدوليين والشيوعيين في كورية. ص73.

11- الخطباء المجانين:

إلى متى نحسَب أن الخطيب هو الذي يتكلم بصوت مرتفع؟ لا ندري أنه لا يكون الخطيب خطيبا حتى يقول هذا الكلام العظيم، الذي يسحر بقوته، ويروى لبلاغته، ويمحو من الرؤوس أفكارا أو عقائد، ويضع في الرؤوس عقائد وأفكارا، ويقول مثلما قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار الثائرين: ألا يرضيكم أن ينصرف الناس بالشاء والبعير وتنصرفوا بمحمد إلى رحالكم، وكما قال طارق للجند المترددين: العدو من أمامكم، والبحر من ورائكم، وكما قال هتلر للألمان لما قام هتلر: إن الحلفاء أرادوا أن يذلوا ألمانيا فقيدوها بمعاهدة فرساي، وأراد الله أن يعز ألمانيا، فبعثني لأمزق قيود فرساي.. متى نفرق بين الخطيب الحق، وبين المجانين الذين يصعدون المنابر ليزعقوا ويصرخوا صراخ المجانين؟ ص85.

12- كلها من آثار محمد صلى الله عليه وآله وسلم :

احذفوا من تاريخ العرب كل شيء إسلامي، ثم انظروا ماذا يبقى؟ إنه لن يبقى منه شيء إلا المعلقاتِ، وخطبةَ قُسِّ بن ساعدة، ومعارك البسوس وداحس والغبراء، وقصر الخَوَرْنَق في الشمال، وغُمْدان في الجنوب.. هذا الذي يبقى، أما الحضارة التي دنا بها التاريخ، وأفضلْنا بها على الناس، وهذه الملايين من الكتب التي ألفناها، ومئات الألوف من العظماء الذين أنجبناهم، وعشرات الألوف من المعارك التي خضناها، ومناقب الحق والخير التي ملأنا بها الدنيا، فهي كلها من آثار محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ص172.

13- توفيق الحكيم:

الأستاذ توفيق الحكيم من أكبر أدبائنا القصصيين، لا يكاد ينازع في ذلك أحد، ومن أكثر الأدباء انتاجا وأخصبهم قريحة، عالج أنواعا من القصة فوُفق فيها وأتى بالـمُعجب المطرب، ومن ذلك قصته الأخيرة "عصفور من الشرق" التي فرغت من قراءتها الآن، فأحسست كأني كنت في جنة سحرية ثم هبطت إلى الأرض، وتمنيت لو طال نفس الأستاذ فيها حتى ما تنتهي. ص180.

قلت (بسام): ثم انتقد الشيخ في تتمة المقال جملة أمور على الحكيم، منها ما يتعلق بالدين، فلتُنظر هناك.

14- "صيد الخاطر" لابن الجوزي:

موضوعه ظاهر من اسمه، وهو خواطر كانت تخطر له فيدونها في هذا الكتاب، وليس في هذا الكتاب بلاغةُ الجاحظ وابن قتيبة، ولا صناعةُ ابن العميد، ولا فحولةُ الجُرجاني، ولكنَّ فيه شيئا ليس مثله عند أولئك جميعا؛ هو هذه السهولة وهذه السلاسة، وهذا الصدق في تصوير الخواطر، وهذا الإلمام بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية، وما فيه من وثبات ذهنية عجيبة، وما يقوم به من تحبيب الأدب إلى الطلاب، وهذا الكتاب لو نشر اليوم على أنه لبعض الكتاب العصريين لقامت له الصحف الأدبية وقعدت، وهللت له وكبرت، وأحلته الذِّروة والسَّنام. ص203.

15- الزائد أخو الناقص:

أعرف أخوين حادا عن السبيل السوي في الغذاء، هذا إلى طريق النقص، وهذا إلى طريق الزيادة، وما عن حاجةٍ نَقَص الأول غذاءَه، ولكن تقشفا وتزهدا وإهمالا لحق جسده عليه، فكان لا يأكل المقدار الكافي، ولا يختار الغذاء الوافي، وكان الثاني يبالغ في التخير، وضبطِ أوقات الطعام، وتتبع كتب الصحة، وجمع جداول الغذاء، وحساب ما يكون في كل طعام من الزلال، ومن النشاء، ومن الدهن، وما يشتمل عليه من آزوت وفسفور وماء الفحم، وما فيه من الأملاح وما فيه من أنواع الفيتامين، وهو يعرف لها بضعة عشر نوعا، وكم حرة (كالوري) يكون منه إلى آخر هذا الكلام..

أما الأول فعراه مرض كاد لولا لطف الله يُوْدي به إلى خطر، وأما الثاني فقد أصابه رمْلٌ في الكلى انقلب إلى حصوات، في كل كلية حصاة، وآلامٌ في المفاصل إذا مستها نسمة من هواء بارد جعلت فيها مثل وخز الإبر أحيانا، وحينا مثل طعن السكاكين، وذلك على جودة في الصحة، ونماء في الجسم، وضخامة في العضل. ص219-220.

قلت (بسام): والعبرة في تتمة المقالة فانظرها هناك رعاك الله.

تمت بحمد الله

(1) هكذا يلفظها العامة، ويقولون كذلك: شحَّات، وأصلها الفصيح: شحَّاذ، وهو الملح في السؤال.

(2) لقِست النفس: خبُثت وغثَّت وساءت.

(3) الزواج من الثانية والثالثة والرابعة شرعُ ربنا، ولا يُظن بالشيخ أنه يكره هذا أو يعترض عليه -حاشاه-، فهذا المقال يفهم في سياقه وملابساته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين