مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (93)

قال تعالى :(بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ١١٢) [البقرة: 112]

 

السؤال الأول:

قال تعالى في هذه الآية: (بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ) [البقرة:112] وورد الفعل (أَسۡلَمَ) فيها بالماضي , وفي آية لقمان ورد الفعل بالمضارع (وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ) [لقمان:22] فما الفرق بينهما؟

الجواب:

أولاً ـ استعراض الآيات :

آية البقرة (بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:112] .

آية لقمان (وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ) [لقمان:22].

ثانياً ـ اختلاف الصيغ بين الآيتين :

نوجز ذلك بالجدول التالي :

 

 

سياق الآيتين يوضح الاستعمال من الناحية اللغوية :

1ـ أسلم، أي: انقاد واستسلم وخضع واتبع وفوّض.

آ ـ معنى (أسلم إلى الله) أي:انقاد له وفوض أمره إليه وسلم نفسه إليه كما يُسلَّم المتاعُ إلى الرجل إذا دُفع إليه، والمراد التوكل عليه والتفويض إليه، و(إلى) هنا هي للغاية.

ب ـ ومعنى: (أسلم وجهه لله) أي: جعل نفسه لله خالصاً، أي: لله فقط ، والاختصاص والوجه بمعنى النفس والذات، فاللام للملك والاختصاص، أمّا (إلى) فهي للغاية؛ لذلك (أسلم له) أعلى من (أسلم إليه).

وقد وردت في عموم القرآن الكريم متصرفات الفعل (أسلم) متعدية باللام، ولم يرد ذلك الفعل متعدياً بإلى إلا في آية لقمان( 22).

2ـ أنه إذا وقع فعل الشرط مضارعاً بعد أداة الشرط فهذا يفيد التكرار غالباً، وإذا وقع بالماضي يفيد وقوع الحدث مرة في الغالب .

المعنى العام للتعبير:

استعمال (إلى) تدل على أنّ الله هو الغاية، والغاية لا بُدّ لها من طريق للهداية يوصّل إليها.

أمّا اللام، فتعني الوصول لله مباشرة دون قطع طريق، وهذا الوصول لا يكون إلا بدرجة عالية من الإخلاص لله.

فمعنى آية لقمان: أنك على الطريق الموصل إلى الله تعالى، وأنك تؤدي ما افترضه عليك.

ومن إسلام الوجه لله قول ملكة سبأ : (وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [النمل:44] فالكلام هنا على لسان ملكة، فلم تقل: أسلمت لسليمان، لكنْ قالت: (وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ) [النمل:44].

وإسلام الوجه لله أو إخلاص العمل لله عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى كثيرٍ من المجاهدة لأنّ النفس لا تخلو من هفوة.

ما سبب اختيار الفعل (أسلم) ؟

1ـ ذكرنا أنّ أهم معاني (أسلم )هو الاتباع والتفويض.

آـ معنى الاتباع :

في آية لقمان [21] قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ يَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ) [لقمان:21] فذكر فيها الاتباع للآباء بمعنى أنهم أسلموا قيادة أمرهم إلى الشيطان، فناسب هنا ذكر اتباع الله فقال: (وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ) [لقمان:22] .

ب ـ معنى التفويض :

ذكر في آية لقمان [22] أنّ المرء يفوض أمره إلى الله وخاصة في حالة الشدائد، فقال تعالى: (فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ ) [لقمان:22] فكأنها تعصم من الشدائد؛ لأنّ حبل الله متين مأمون انقطاعه؛ ولأنّ النتيجة هي بيد الله وإلى الله عاقبة الأمور .

لذلك ناسب اختيار (يُسلم)

مقارنة بين آية البقرة (112 ) وآية لقمان (22) :

1ـ جاءت لفظة (أَسۡلَمَ) بالماضي في سورة البقرة، وجاءت بصيغة المضارع في آية لقمان ؛ وذلك بسبب :

آ ـ في البقرة جاءت رداً على اليهود والنصارى، كما جاء في قوله تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) [البقرة:111] فجاء الرد (بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ) [البقرة:112] أي: دخل في الإسلام، وهذا يحدث مرة واحدة في العمر، والباقي أعمال فجاءت في صيغة الماضي.

ب ـ أمّا في آية لقمان فجاء بصيغة المضارع؛ لأنّ معاني الاتباع متعددة والتفويض يتكرر في كل أمر عند الشدائد فناسب فعل المضارع.

2ـ يقدّم القرآن الجار والمجرور على الفعل (أسلم) في مقام التوحيد ونفي الشرك، فيقول: (فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ) [الحج:34] وفي غيره لا يقدم.

شواهد قرآنية :

آـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ) [الحج:34] فقدّم الجار والمجرور (فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ) لأنه تقدمها (فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ) .

ب (وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) [الزُّمَر:54] لم يقدّم الجار والمجرور؛ لأنها ليست في مقام التوحيد.

ج ـ آية لقمان [ 22] لم يقدم الجار والمجرور؛ لأنها ليست في مقام التوحيد.

د ـ وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر كما في قوله تعالى : (ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَيۡهِ تَوَكَّلۡنَاۖ) [المُلك:29].

وكذلك في آية الملك قدّم الجار والمجرور على الفعل (وَعَلَيۡهِ تَوَكَّلۡنَاۖ ) [المُلك:29] وقدم الفعل (ءَامَنَّا) [المُلك:29] على الجار والمجرور (ءَامَنَّا بِهِۦ) [المُلك:29] وذلك لأنّ الإيمان ليس منحصراً في الإيمان بالله فقط, بل لا بدّ معه من الإيمان بالرسل والملائكة والكتب واليوم الآخر وغيره مما يتوقف عليه صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين، لذلك قدّم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره؛ لأنّ غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه .

لذلك لا يصح من الناحية البيانية أنْ تقول (به آمنا).

3ـ قال في لقمان: (وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ) [لقمان:22] بالتعدية بـ (إلى) وقال في البقرة: (أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ) [البقرة:112] والسبب كا ذُكر أعلاه؛ فمعنى (يسلم وجهه إلى الله) أي: يفوض أمره إلى الله ويتوكل عليه، ولذا كان جواب الشرط: (فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ) [لقمان:22] .

بينما معنى (أسلم وجهه لله) أي: دخل في الإسلام واستسلم لوجه الله وانقاد له وجعل نفسه خالصاً له، ولذا كان الجواب: (فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) [البقرة:112].

4ـ قوله تعالى: (وَهُوَ مُحۡسِنٞ) [البقرة:112] أي: يسلم وجهه إلى الله في حالة اتصافه بالإحسان

5ـ قوله تعالى: (وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ) [لقمان:22] :

آ ـ (وَإِلَى ٱللَّهِ) [لقمان:22] قدّم الجار والمجرور لتفيد الحصر، وهي رد على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور، والآية تفيد أنّ الأمور جميعها هي صائرة إليه عزّ وجلّ لا إلى غيره، فيجازي الله سبحانه المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويجازي ذلك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة .

ب ـ وأل التعريف في قوله: (ٱلۡأُمُورِ) [لقمان:22] هي للاستغراق.

وبشكل عام وفي كلا الآيتين (من أسلم لله) و(أسلم إلى الله) كلاهما محسن , ولذلك قال القدامى : (أسلم لله) أعلى من (أسلمت إلى الله) كما قال الرازي: واختلف الأجر وكل أجر مناسب لكل واحد، ذاك فوض أمره إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى، وذاك جعل نفسه خالصاً لله فله أجره عند ربه، وكونه مسلماً دخل في الإسلام. والله أعلم.

السؤال الثاني:

ما أهم دلالات هذه الآية ؟

الجواب:

(بَلَىٰۚ) هو حرف جواب لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة .

2ـ بيّن سبحانه أنّ الأمر ليس كما زعم كل فريق من اليهود والنصارى, من أنّ الجنة تختص بطائفة منهم دون غيرها , وإنما يدخل الجنة كلُ من أخلص دينه لله فأسلم وجهه له , وامتثل لأوامر الله ونواهيه في كل تصرفاته ,وعمل صالحاً , وتوجه خالصاً بقلبه لله تعالى .

3ـ قوله تعالى : (وَهُوَ مُحۡسِنٞ) دلالة الإخلاص لله في عمله الصالح .

4 ـ قوله تعالى : (وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ) أي مما يصيبهم في المستقبل , وقوله تعالى : (وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) أي :على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.

5ـ الآية تشير إلى أنّ العمل المتقبّل له شرطان :

آ ـ أن يكون خالصاً لله من الرياء والشرك .

ب ـ أن يكون موافقاً للشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

6 ـ قرأ يعقوب : ( لا خوفَ عليهم) بفتح الفاء , على أنّ ( لا ) نافية للجنس تعمل عمل إنّ , وقرأ الباقون بتنوين الفاء المرفوعة (وَلَا خَوۡفٌ) على أنّ ( لا ) ملغاة نحوياً لا عمل لها , وقرأ حمزة ويعقوب بضم الهاء من ( عليهُم ) وكسرها الباقون (عَلَيۡهِمۡ) . والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين