مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (92)

قال تعالى : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111]

السؤال الأول:

في الآية طلب كشف مدى صدق دعواهم وهو نوع من طلب التحقيق، فما دلالة ذلك ؟ وما فرق التحقيق عن التبيين ؟

الجواب:

التحقيق هو كشف مدى صدق الدعوى، وهو يختلف عن التبيين الذي هو لمعرفة صدق الخبر، والفرق بين التبيين والتحقيق أنك في الأول تجعل صاحب الخبر يبيّن , أمّا في الآخر فإنك تجعل صاحب الدعوى يأتي بالبرهان على صحة دعواه كما في هذه الآية.

السؤال الثاني:

ما كلمات منظومة التحري والتحقيق في القرآن الكريم؟

الجواب:

كلمات منظومة التحري والإحاطة والتحقق هي:

التحري:

التحري هو أن تتناول الأمر من جانبه سراً بدون أنْ يشعر بك أحد للوصول إلى اليقين.

وهناك طريقتان للتحرّي، وهما:

أ- طريق التجارب تجربة بعد تجربة. قال تعالى:

 {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، فهم لم يعرفوا من مرة واحدة ولكنهم مروا بتجارب عديدة حتى وصلوا إلى الرشد.

وقال أيضاً: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51].

حيث تحرّى إبراهيم عليه السلام الكوكب والقمر والشمس فأدى به التحري إلى الرشد، وهو أرقى أنواع التفكير العقلي.

ب- استعمال الشك للوصول إلى اليقين، كما في قوله تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

فالتحري يوصل إلى اليقين والذي يؤمن بالدين يتم بعد يقينه بهذا الدين وبأنه هو الدين الصحيح.

الاستخبار:

هو أنْ تكشف خطط العدو وتعرف تصرفاته من بعيد كما فعل الهدهد مع ملكة سبأ {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وقوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94]، والخبر يكون من قريب، أمّا الاستخبار والنبأ فيكون من بعيد.

التبيّن:

هو المراقبة من بعيد أو التغلغل في صفوف الآخرين لمعرفة صدق الخبر؛ لأنه لا بدّ من التيقن من صحة الخبر أو كذبه، كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، بمعنى اطلب البيان وهو التفصيل الكامل عمن الذي نقل الخبر.

التحقيق:

هو كشف مدى صدق الدعوى، وهو يختلف عن التبين الذي يكون هو كما أسلفنا لكشف صدق الخبر، والفرق بين التبيين والتحقيق أنك في الأول تجعل صاحب الخبر يبين، وأمّا في الآخر فأنت تجعل صاحب الدعوى يأتي ببرهان على صحة دعوته، قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، فقد طلب تعالى منهم أنْ يأتوه بالبرهان على صدق دعواهم تلك، وعلى صاحب الخبر أنْ يبين عمّا قال بالتفصيل، وعلى صاحب الدعوى أنْ يبرهن عن دعواه بالدليل.

التحسس:

هو معرفة مكان شيء أو شخص غائب أو مفقود، ولابدّ من الانطلاق بالحركة للسؤال عن هذا الغائب أو المفقود في محاولة لإيجاده، ولابدّ من استعمال كافة الحواس حتى تجعل المفقود أو الغائب مشاهداً، كما في قوله تعالى في سورة يوسف {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .

والفرق بين التحسس والتجسس، أنّ التحسس يكون للصديق أو لمصلحتك، أمّا التجسس فهو محاولة اكتشاف غيب العدو وحركاته وخططه، ويكون ذلك عن طريق استراق السمع ونشر العيون، وهذا يكون لمصلحة الآخرين، وهو نوعان:

- إيجابي مع العدو: كما فعل الهدهد في قصة سبأ، لأنه قد يدفع شر العدو ويفشل خططه، أو قد يعين على مهاجمته.

ـ سلبي مذموم على المسلمين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] ونهى عنه الرسول ﷺ بقوله: «لا تحسسوا ولا تجسسوا» وهذا من خائنة الأعين، وقد تجسس عمربن الخطاب رضي الله عنه مرة على شاربي خمر فحاججوه فاعتذر منهم.

القصّ والقصص:

هذه كانت موهبة وأصبحت الآن علماً قائماً بذاته، وقد كان السابقون يقصون آثار الناس ويتعرفون على آثار شخص ما من بين آلاف الآثار، وكان هذا العلم يسمى (قصّ الأثر).

أمّا الآن فلدينا بصمة الأصابع، وبصمة الصوت، والشفرة الوراثية، وبصمة الشعر والعين وغيرها، وهذه كلها تطوير لعلم القصّ حتى إنّ الكلاب الآن تستخدم لتقصي الأثر. قال تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} القصص 11 وقال:{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، أي اتبعوا آثارهم حتى وصلوا إلى المكان المراد.

التوسم:

التوسم من الفراسة وهو من اللامعقول كالقص سابقاً، فالله يعطي من يشاء من عباده بصيرة عظيمة، وهو ناجم في الغالب عن طاعة، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [ الحجر: 75].

وكما في قصة الخضر حيث كشف الله تعالى له أنّ الغلام سيكون شقياً، وكذلك في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نادى من فوق المنبر: (يا سارية الجبلَ الجبلَ)، ومن ضمنها أيضا الرؤيا الصالحة، وكمافي الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».

التنقيب:

هو البحث عن الشيء الثمين في موقع معين، قال تعالى : {وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} [ق: 36].

هذه جملة الأساليب التي يكتشف بها الإنسان بعض الغيب فيصبح مشاهداً، وهي أساس حركة الكون كله من البحث عن المعادن والخصب والمرض والمجرمين وكل الاكتشافات.

السؤال الثالث:

ما أهم الدلالات في هذه الآية؟

الجواب:

1ـ هذه الآية تبين زعم اليهود بأنّ الجنة خُلقت لهم وحدهم, والردُّ على ذلك .

2ـ الهود : جمع هائد , كعائذ وعُوذ , فإنْ قيل : كيف قيل : كان هوداً ؟ على توحيد الاسم وجمع الخبر ؟ والجواب : حمل الاسم على لفظ ( من ) والخبر على معناه .

3ـ إنْ قيل : قوله تعالى على لسان اليهود {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} أمنية واحدة , وقوله تعالى :

{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}  جمع فما تفسير ذلك ؟ والجواب : أُشير إلى الأماني السابقة :أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خيرٌ من ربهم ـ أمنيتهم أن يردونهم كفاراً ـ أمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم . والمعنى : تلك الأماني الباطلة أمانيهم .

وقيل : إنّ شدة تمنيهم لهذه الأمنية بأن لا يدخل الجنّة غيرُهم وتأصلها في نفوسهم فجُمعت وتوزعت في قلوبهم فلم تترك فراغاً لغيرها .

4ـ قوله تعالى: {هَاتُوا} (هات) بمعنى أحضر . ودلتْ الآية على أنّ المدعي سواء ادعى نفياً أو إثباتاً , فلا بدّ له من الدليل والبرهان , وإلا تكون دعواه باطلة . قال الشاعر :

من ادعى شيئاً بلا شاهد =لا بدّ أن تبطل دعواه

5ـ قوله تعالى : {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرط وفعله , والجواب محذوف , والتقدير : فهاتوا برهانكم .

6ـ قرأ أبو جعفر ﮋ أَمَانِيُّهُمْ ﮊ بياء مدّية بعد النون ثم هاء مكسورة , وقرأ باقي القرّاء كقراءة حفص بياء مشددة بعدها هاء مضمومة .

والله أعلم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين