مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (85)

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104]

السؤال الأول:

ما مناسبة نزول هذه الآية عقب آيات السحر؟ 

الجواب:

نُهيَ المؤمنون عن التلفظ بكلمة (رَاعِنَا) وهذه كلمة تشبه كلمة في العبرانية تعني المسبّة، فقال المنافقون واليهود: كنا نسبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سرّاً فأعلنوا بها الآن، فأنزل الله تعالى النهي عن هذه الكلمة وكشف عمل اليهود والمنافقين.

لكنْ ما مناسبة نزول هذه الآية عقب آيات السحر؟ لو رجعنا إلى أصل السحر لرأيناه يرجع إلى التمويه وأنّ من ضروب السحر ما هو تمويه الألفاظ، فأذى الشخص بقول أو فعل لا يُعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم به أذى، كما فعل المنافقون بقولهم: (رَاعِنَا) فهم يظهرون معنى ويبطنون غيره.

السؤال الثاني:

ما دلالة هذه الآية؟

الجواب:

1ـ اعلم أنّ الله قد خاطب المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في تسعة وثمانين موضعاً من القرآن، وكان يخاطب في التوراة بقوله: (يا أيها المساكين)، فكأنه سبحانه لمّا خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً، والمسكنة هي تشديد المحن حيث قال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [البقرة:61] وهذا يدل على أنه تعالى لمّا خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً؛ فإنه يعطيهم الأمان من العذاب في النار يوم القيامة.

واسم المؤمن من أشرف الأسماء والصفات، فخاطبنا الله به فنرجو من فضله وكرمه أنْ يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات , اللهم آمين.

وقوله تعالى في هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو أول نداء للمؤمنين في سورة البقرة , وفيه يُعلّم اللهُ سبحانه الأمة الإسلامية الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأن لا يتشبهوا باليهود في سوء استخدامهم للألفاظ حال حديثهم مع رسوله عليه السلام في حياته , ومع شرعه ودعوته بعد مماته.

وفي هذا النداء يكشف لنا القرآن شيئاً من أساليب اليهود , ومن سوء أدبهم مع الرسول عليه السلام فيحذرنا أن نكون مثلهم , أو نصنع مثل صنيعهم , كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من تشبه بقوم فهو منهم).

2ـ في الآية الكريمة نداء للمؤمنين بأنْ يمتنعوا عن قول (رَاعِنَا) ويقولوا بدلاً عنها (انْظُرْنَا) أي أمهلنا وأنسئنا.

كلمة (رَاعِنَا) في اللغة العربية مشتقة من الرعاية والراعي، وتصبح الكلمة بمعنى: احفظنا وخذ بيدنا وراقبنا وتأنّ بنا حتى نفهم , ومعناها في العبرية: اسمع لا سمعت. 

لكن هذه الكلمة عند اليهود في لغتهم العبرانية مأخوذة من الرعونة, ولذلك كانوا إذا سمعوا من صحابة رسول الله كلمة (رَاعِنَا) اتخذوها وسيلة للسباب بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والمسلمون لا يدرون شيئاً، لذلك أمرهم الله أنْ يتركوا هذه الكلمة حتى لا يجد اليهود وسيلة لستر سبابهم وأمرهم بأن يقولوا: (انْظُرْنَا).

3ـ ثم قال الحق بعدها: (وَاسْمَعُوا) وهنا يشير الله إلى الفرق بين اليهود والمؤمنين، فاليهود قالوا: (سمعنا وعصينا) ولكنّ الله يقول للمؤمنين (وَاسْمَعُوا) سماع طاعة وسماع تنفيذ.

سعد بن معاذ رضي الله عنه سمع واحداً من اليهود يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رَاعِنَا) وسعد كان سابقاً من أحبار اليهود ويعرف لغتهم , فلمّا سمع ما قاله فهم مراده فذهب إلى اليهودي وقال له: لو سمعتها منك مرة أخرى لضربت عنقك. فقال اليهودي: أَوَلستم تقولونها لنبيكم؟ أهي علينا حرام وحلال لكم؟ فنزلت هذه الآية.

كلمة (رَاعِنَا) وكلمة (انْظُرْنَا) لهما نفس المعنى , ولكن كلمة (انْظُرْنَا) ليس لها نظير في لغة اليهود التي تعني الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4ـ ثم قال: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:104] أي: من يقول: (رَاعِنَا) إساءة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم عذاب أليم، وقدّم الجار والمجرور للحصر.

5ـ كلمة (راعنا) هي فعل أمر, والفاعل ضمير مستترتقديره (أنت) , و(نا) مفعول به , وهذا في الأصل , والمُراد به في الآية الحكاية, فتعرب كلمة أُريد بها لفظها دون معناها في محل نصب مفعول به. وكذلك الأمر في كلمة (انظرنا).

6ـ المفعول به لفعل الأمر: (واسمعوا) لم يذكرمعه المسموع بل أطلقه ليعم ما أمرباستماعه من الخير , بتقدير: اسمعوا كل ما يقوله لكم الرسول عليه السلام من القرآن والأحكام والمسائل.

والله أعلم.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين